تعد الظروف الجغرافية والطوبوغرافية والسكانية واللوجستية من أهم محددات السياسة في أي بلد. ولكي نفهم ظاهرة الأختلاف بين نمط الحكم في مصر المركزي دوماً، والعراق اللامركزي دوماً علينا مناقشة علاقة ذلك بجغرافيتهما أو كما يسمى الآن تأثير الجيوبولتك عليهما. فكيف أختلف الجيوبولتك في وادي الرافدين عنه في وادي النيل؟...

في هذا المقال متابعة للمقالات السابقة بخصوص تأثير العوامل البيئية المختلفة على مزاج وسياسة العراقيين والمصريين من منظور تاريخي. بالتحديد محاولة الأجابة على التساؤل: لماذا ينزع المصريون نحو المركزية الشديدة والتمسك بالسلطة، في الوقت الذي يقاوم فيه العراقيون السلطة المركزية وينفرون منها؟ أن أبسط وأشهر تعريفات السياسة هي «فن الممكن». هذا يعني أن السياسة تتحدد وتتشكل بالظروف وليس فقط بالسيوف أو ما يحلم به الساسة والقادة من سقوف. 

وتعد الظروف الجغرافية والطوبوغرافية والسكانية واللوجستية من أهم محددات السياسة في أي بلد. ولكي نفهم ظاهرة الأختلاف بين نمط الحكم في مصر (المركزي دوماً)، والعراق (اللامركزي دوماً) علينا مناقشة علاقة ذلك بجغرافيتهما أو كما يسمى الآن تأثير الجيوبولتك عليهما. فكيف أختلف الجيوبولتك في وادي الرافدين عنه في وادي النيل؟ هذا ما سأناقشه في مقال لاحق.

جغرافية الأنهر. في الوقت الذي يوجد فيه نهر عظيم واحد في مصر، فأن هناك نهران عظيمان في العراق، فضلاً عن شط العرب، وكثير من الأنهر والروافد الأصغر التي يمكن العيش والزراعة وانشاء المدن حولها (كالغراف والهندية، وديالى، الوند، وشط الحلة والصقلاوية، وسواهم الكثير). 

ان من ينظر لخارطة العراق يجد شبكة من الروافد المائية أشبه بالأقفاص الجغرافية الخصبة، أو بالشرايين والشعيرات الجغرافية الممتدة على مساحة عمودية من شمال العراق لجنوبه وكذلك أفقية من شرقه لغربه. هذه الجغرافيا ساعدت كثيراً في تقفيص (من أقفاص) السكان في العراق القديم، حين لم تكن هناك وسائل نقل وأتصال متطورة، في مساحات جغرافية محددة طبيعياً.

أما في مصر فأن الأراضي الصالحة للزراعة فيها تمتد على شريط ساحلي ضيق على طول النيل فقط. وليست هناك موانع جغرافية كثيرة تشكل حدوداً طبيعية بين المناطق (القرى والمدن) الممتدة على طول مسار النيل. أن شبكة الأنهر في العراق (وما يتبعها من فيضانات كما سنرى لاحقاً) جعلت الأراضي الصالحة للزراعة فيه أكبر بكثير من مصر. ففي الوقت الذي تشكل فيه الأراضي الخصبة في العراق حوالي 15 بالمئة من مساحته الكلية فأنها تشكل أقل من 3 بالمئة في مصر. 

وفي الوقت الذي هناك الكثير من الحواجز الطبيعية بين المناطق السكانية في العراق، والتي تجعل الاتصال بينها ليس سهلاً، بحكم شبكة الأنهر والقنوات المائية فأن النيل ينساب هادئاً متبختراً دون أي أعتراض من الطبيعة من جنوب مصر لشماله عبر عمود مائي متصل وغير منقطع. بمعنى أنه في الوقت الذي تساعد فيه جغرافيا النيل المصريين على التواصل، فأن جغرافيا الأنهر في العراق تساعد على التركيز المحلي للمناطق والقرى والمدن.

انحدار شديد

طوبوغرافية الحوضَين. أن الطبيعة الطوبوغرافية لحوضَي العراق (دجلة والفرات) أشد قسوةً وأكثر أنحداراً من نهر النيل، وحينما قام السير ولكوكس بدراسة نهري دجلة والفرات قال «أن أرض العراق أشد انحداراً من أرض مصر. ففي مصر يبلغ انحدار الارض قدم واحدا في كل ميل بينما يبلغ خمسة أقدام في الميل الواحد في العراق. 

إن شدة الانحدار في الارض تؤدي الى قوة جريان الانهار مما يعني قدرة النهر على كسر السدود واجتياح الاراضي الزراعية المجاورة». من هنا تجد كثير من السدود على دجلة والفرات عبر التاريخ، في حين لا تجد سداد كثيرة على النيل. وفي الوقت الذي يتبختر فيه النيل في مشيته، فأن مشية دجلة والفرات أشبه بالمسير العسكري الصاخب. 

ان السدود عبارة عن منشآت كبيرة ومعقدة تحتاج الى جهد بشري وهندسي كبير، وتعاون وثيق وأشتراك أكثر من مهنة (غير زراعية) في بناءه. هذا يجعل أهالي مناطق السدود أكثر صلةً ببعضهم البعض مما يعزز روابطهم المحلية ويفرض نوعاً من الأعتماد والحكم الذاتيَين. فبناء السدود وصيانتها وتنظيم الري تتطلب نمطاً من الإدارة الذاتية المتطورة. 

فأذا كانت مثل هذه الإدارة المتطورة متوفرة محلياً وكفوءة فما الحاجة إذاً لإدارة مركزية من خارج أهالي المنطقة؟! لقد أثبتت ،مثلاً، الدراسة الميدانية التي قمت بها قبل سنتين شدة التصلب الاجتماعي، أي كثرة المعايير والضوابط الأجتماعية وشدة التمسك بها لدى من يسكنون على ضفاف دجلة مقارنة بالفرات. فبسبب الأنحدار الأشد لنهر دجلة قدّر المهندس الشهير أحمد سوسة أن معدلات فيضانه تزيد 31 بالمئة عن معدل فيضان الفرات. 

ومن المعروف تاريخياً أن فيضانات دجلة أشد تدميراً من الفرات. لذلك لدى العراق اليوم 12 سداً على دجلة مقابل سبعة فقط على الفرات. لقد لاحظ كُثُر من المراقبين ودارسي الأنثربولوجبا، أن المصريين أكثر فرحاً ومرحاً، وأقل حزناً وغضباً من العراقيين. 

وهذا يتجسد بوضوح في أختلاف أنماط الفن والغناء والشعر والأدب والسلوك الاجتماعي، بل وحتى طريقة الحديث بين العراق ومصر. ولعل الطبيعة الطوبوغرافية المختلفة وشديدة القسوة لنهرَي دجلة والفرات، مقارنةً بالنيل تفسر جزءً من هذه الظاهرة. 

ففي الوقت الذي تمتلأ فيه الكتابات التاريخية في النيل عن خير فيضان النيل (الهادىء والجالب للخصب والطارد للأوبئة والأمراض)، فأن فيضانات دجلة والفرات لم تكن مصدراً فقط للخير لمن يسكنون على ضفافها، بل كانت تجلب معها في كثير من الأحيان الدمار والموت حتى أن السومريين وثقوا قصة مشابهة لقصة طوفان نوح المدمّر وهي محفوظة الآن في المتحف البريطاني. لذا كان السومريون يوثقون لتاريخهم بما قبل الطوفان وبعده كنايةً عن الدمار العظيم للأرض بعد الطوفان.

تاريخ قريب

وهكذا كان يفعل العراقيون لغاية سبعينات القرن الماضي حينما كان العامة يؤرخون لتاريخهم القريب بما قبل غرق (فيضان) بغداد، وما بعده كنايةً عن الحدث الجلل والمدمر حينما غرقت بغداد عام 1954. ومن يراجع تاريخ بغداد منذ تأسيسها على يد المنصور في عام 762 للميلاد سيعجز عن أحصاء كل الفيضانات الي تعرضت لها وما سببته من دمار بشري ومادي هائل. في حين أن من يرجع لتاريخ القاهرة فسيجد أن آخر فيضان لها كان في القرن التاسع عشر ولم يكن مدمراً كفيضان بغداد.

اضف تعليق