هذا الاختراق الكبير لا يحل فقط واحدًا من أصعب التحديات في الفيزياء، ولكنه أيضًا يمهد الطريق لفهم شامل، إذ لم تعد النظريات الكمية والنسبية العامة موجودة كنظريات معزولة، تلتقي هذه النظريات من خلال تماثل القوة النووية القوية في طاقة الفراغ، مصورةً كونًا مبنيًّا بشكل أساسي من هذه الوحدات غير القابلة للتجزئة...
انضم إليّ في رحلة لاستكشاف أعمق أسرار الكون، حيث نواجه واحدًا من أكبر الألغاز العلمية: مشكلة الثابت الكوني، هذا التحدي الذي حير العلماء لأكثر من سبعين عامًا -والذي تكلم عنه باستفاضة الفيزيائي الشهير ستيفن واينبرج في عام 1989- يضع نظريتين رئيسيتين في الفيزياء في مواجهة.
من ناحية، لدينا نظرية الكم للمجالات، التي تفسر عالم الجسيمات والقوى الطبيعية، ومن ناحية أخرى، لدينا النسبية العامة، نظرية أينشتاين، التي تشرح التفاعلات بين النجوم والمجرات ونسيج الزمكان نفسه، ويكمن التحدي في عدم الاتساق الشاسع بين النظريتين في حساب طاقة الفراغ.
طاقة الفراغ
أولًا دعونا نعرف طاقة الفراغ، وفقًا للنظرية النسبية العامة، تمثل طاقة الفراغ ثابت الزمكان، وهو ثابت يحدد شكل الزمكان وتأثيره في معادلات أينشتاين، أما طاقة الفراغ فتُعرف وفقًا لنظرية المجال الكمي على أنها الطاقة الأدنى للمجال الكمي، وهي ثابت أيضًا، لكنها مسؤولة عن خلق المادة والمادة المضادة، أي أنها "ثابت" مسؤول عن "التغير"، ووفقًا للنظريتين، فهي طاقة أبدية ثابتة تشكل ثابت الزمكان وتشكل الطاقة الأدنى في آنٍ واحد.
ويأتي التحدي هنا من حساب قيمة تلك الطاقة وفقًا للنظريتين.
فعند حساب قيمتها وفقًا لمعادلة أينشتاين للنسبية العامة ووفقًا للملحوظات التجريبية، وجدنا قيمتها صغيرةً للغاية، تساوي واحدًا على عشرة مرفوعة لأس سبعة وأربعين، أما عند حسابها وفقًا لنظرية المجال الكمي فوجدنا قيمتها كبيرةً للغاية، تساوي عشرة مرفوعة لأس ستة وسبعين، ما يجعل النسبة بينهم 10 وأمامها مئة وثلاث وعشرون صفرًا!
هذا الفارق بين النظريتين حير العلماء لعقود، وحاول فطاحل الفيزياء حله بافتراض أكوان متعددة أو أبعاد أكثر من أربعة أو وضع افتراضات ونظريات لتفسير الفارق الكبير بين النظريتين، وكانت المشكلة الأساسية في الحلول المطروحة افتراضها أشياء لا يمكن قياسها، كالعوالم المتعدة أو الأبعاد الزائدة، حتى يتم تفسير هذا الفارق الكبير!
ولقد قضيت سنوات عديدة أحاول حل هذ اللغز المحيرعن طريق شيء يمكن قياسه والتحقق منه تجريبيًّا، وهذا هو التحدي الأكبر!
حضور زماني مكاني
تمثل نظرية الكم للمجالات من خلال النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات، الذي يقوم على مجموعة التماثل التي تجمع بين تماثل القوة النووية القوية، والقوة النووية الضعيفة، والقوة الكهرومغناطيسية، ومعنى التماثل هنا أن هذه القوى موجودة في كل الكون بلا استثناء زمانيًّا ومكانيًّا، ما يجعلها قوة مسيطرة وأساسية في الطبيعة!
يشرح النموذج القياسي القوى الأساسية الموجودة في الطبيعة: أُولاها القوة النووية القوية المسؤولة عن تماسك جسيم البروتون الذي يمثل اللبنة الأولى لتشكيل نواة الذرة، ثانيتها القوة النووية الضعيفة، المسؤولة عن الاضمحلال الإشعاعي للجسيمات، أي أن الجسيم الكبير يضمحل إلى جسيمات أصغر منه، ثالثتها القوة الكهرومغناطيسية التي تحكم سلوك الجسيمات المشحونة، ومن ظواهرها الضوء والموجات الكهرومغناطيسية، وتختبرهذه القوى الأساسية انكسارًا للقوة النووية الضعيفة عند مستوى طاقة معين يُعرف بالمقياس الكهروضعيف، وتُعرف هذه الآلية بآلية هيجز.
وتكتسب الجسيمات الأساسية في الكون كتلتها نتيجة انكسار هذه القوة، بمجرد كسر القوة النووية الضعيفة يتبقى لدينا قوتان أساسيتان، القوة النووية القوية والقوة الكهرومغناطيسية، هذه الآلية تمثل جانبًا مركزيًّا في فيزياء الجسيمات وتم التحقق منها بواسطة تجارب متنوعة.
تأثير ميزنر
في البحث الذي كتبته مؤخرًا، لاحظنا أنه مع تبريد الكون إلى درجات حرارة تقترب من الصفر المطلق، يحدث تأثير محدد تم التحقق منه تجريبيًّا يسمى تأثير ميزنر، تمت ملاحظة هذا التأثير في المواد فائقة التوصيل حيث تطرد تلك المواد المجالات المغناطيسية وتُظهر مقاومة كهربائية صفرية.
ومن خلال هذا التأثير، يتم كسر القوة الكهرومغناطيسية، فيبقى تماثل القوة النووية القوية، التماثل الوحيد غير المنكسر.
هنا يتضح أن المكون الأساسي لبنية طاقة الفراغ في الكون هو القوة النووية القوية، التي تتميز بأنها قوة قصيرة المدى، مداها يقارب حجم البروتون، بمعنى آخر، طاقة الفراغ في الكون تتألف من عدد لا يحصى من الذرات المحددة بتماثل القوة النووية القوية فقط!
إن تقدير حجم الكون من خلال الملحوظات التجريبية، وتقسيم هذا الحجم الهائل بحجم البروتون، يوصل إلى مجموع فلكي من الذرات الفراغية يساوي 10 وأمامها مئة وثلاثة وعشرون صفرًا! الرقم المهول نفسه الذي ذكرناه في بداية المقال الذي يمثل النسبة بين حسابات نظرية المجال الكمي وحسابات النسبية العامة وفقًا للملحوظات التجريبية! وجدتها! هكذا قلت لنفسي!
باستخدام كثافة طاقة الفراغ النظرية التي توقعتها نظرية الكم للمجالات، وتقسيمها بعدد هذه الذرات، نحصل على قيمة تتطابق بدقة مع كثافة طاقة الفراغ الملحوظة، كما تم تحديدها من الملحوظات الكونية وكما تم تحديدها وفقًا للنسبية العامة.
هذه الطريقة لا تعالج فقط الاختلاف الكبير الذي طرحته مشكلة الثابت الكوني؛ إذ كانت التقديرات النظرية تختلف سابقًا بشكل كبير عن البيانات التجريبية وعن حسابات النسبية العامة، ولكنها أيضًا تؤكد فكرة ذرات الفراغ المحددة بتماثل القوة النووية القوية كعنصر رئيسي في التوفيق بين نظرية الكم للمجالات والنسبية العامة والأدلة الملحوظة من الكون.
سؤال مهم
بقي سؤال مهم .. هل يمكن لهذه الذرات المحتوية على القوة القوية أن تنكسر؟ الإجابة قطعًا لا.
ولضمان استقرار هذه الذرات ووجودها الدائم، والتي تعتبر ضرورية لحل التناقض وتفسير الثابت الكوني يجب أولاً أن يكون هناك قانون فيزيائي يوفر لها الحماية. يقدم القانون الثالث للديناميكا الحرارية هذا الدور الحيوي حيث ينص على أنه من المستحيل الوصول إلى الصفر المطلق من خلال أي عدد محدود من خطوات التبريد، مما يجعل الوصول إلى الصفر كلفن أمرًا مستحيل.
ومن خلال منع الوصول إلى الصفر كلفن، يضمن القانون الثالث للديناميكا الحرارية عدم حدوث الظروف النظرية المرتبطة بحالة الصفر المطلق هذه -مثل التلاشي الكامل للحجم والضغط -. يشكل هذا حاجزًا وقائيًا حول هذه الذرات، ويحميها من الفناء التام عند صفر كلفن، حيث تتوقف الخصائص الفيزيائية، بما في ذلك الحجم والضغط، عن الوجود بحكم التعريف.
وهكذا، تظل هذه الذرات سليمة إلى الأبد وغير قابلة للكسر، ومحمية بهذا القانون الفيزيائي الصارم الذي لا يمكن المساس به. يوفر هذا أيضًا إطارًا ديناميكيًا حراريًا قويًا يدعم استقرار طاقة الفراغ، والتي تؤدي دورًا حاسمًا في تمثيل الثابت الكوني الزمكاني، كما نوقش سابقًا.
إن غياب أي دليل تجريبي لكسر تناظر القوة النووية القوية يزيد من ترسيخ نظريتنا.
هذا الاختراق الكبير لا يحل فقط واحدًا من أصعب التحديات في الفيزياء، ولكنه أيضًا يمهد الطريق لفهم شامل، إذ لم تعد النظريات الكمية والنسبية العامة موجودة كنظريات معزولة، تلتقي هذه النظريات من خلال تماثل القوة النووية القوية في طاقة الفراغ، مصورةً كونًا مبنيًّا بشكل أساسي من هذه الوحدات غير القابلة للتجزئة، مما ينسج نسيج الزمكان، وبالتالي، ما كان في السابق تناقضًا كبيرًا في الفيزياء النظرية أصبح الآن بوابةً لفهمٍ أعمق!
اضف تعليق