ان القوة السياسية كأحد مصادر القوة الاجتماعية التي تدير أي مجتمع تعتمد بشكل أساس على الدولة ككيان تنظيمي يتمتع بقوة قانونية لحكم شعبٍ ما، وبسيادة معترف بها على إقليم جغرافي محدد. هذا يعني ان القوة السياسية تعتمد في مدى تأثيرها على قدرة الدولة...
في المقال السابق قلت أن القوة السياسية كأحد مصادر القوة الاجتماعية التي تدير أي مجتمع تعتمد بشكل أساس على الدولة ككيان تنظيمي يتمتع بقوة قانونية لحكم شعبٍ ما، وبسيادة معترف بها على إقليم جغرافي محدد. هذا يعني ان القوة السياسية تعتمد في مدى تأثيرها على قدرة (الدولة) التي أوكلت لها تلك القوة. والدولة بحسب هذا التعريف تتضمن خمسة عناصر أساسية هي:
1) الكيان المؤسسي أو السلطات الثلاث،2) الاقليم الجغرافي، 3) السيادة على شؤونها الداخلية والخارجية، 4) الشعب، 5) احتكار القوة أو السلطة القانونية. على هذا الاساس سيتم تحليل القوة السياسية للعراق سابقاً وحاضراً. ان الحقيقة التي لا شك بها في عالم السياسة اليوم هي ان أي خلل في أي عنصر من هذه العناصر الخمسة سينعكس سلباً على قوة الدولة السياسية.
عهد ملكي
ظلت مشكلتا المؤسسية والجغرافية اللتان تمت الأشارة لهما سابقاً تنخران في جسد الدولة العراقية حتى بعد العهد الملكي مستنزفتيَن الكثير من قوة الدولة السياسية وفاسحتَين المجال لمصادر القوة الاخرى (تحديداً القوة العسكرية والقوة الآيدلوجية) لكي تسحب البساط من المصدر الاساس لقوة أي دولة وهو القوة السياسية.
فخلال كل النظُم الجمهورية التي أعقبت الاطاحة بالنظام الملكي بقت مشكلة الحدود الجغرافية والاقليمية للدولة قائمة، مع الاقرار بتباين شدة تأثيرها من نظام لآخر. فمثلاً ظلت المشكلة الكوردية وكيفية بسط قوة الدولة العراقية في كوردستان العراق مشكلة مزمنة لم يتم حلها على مدار عقود طويلة وخلال كل الأنظمة الملكية والجمهورية.
كما بقيت مشاكل العراق الحدودية مع ايران وتركيا مستمرة بل ووصلت في الثمانينات الى حرب ضروس مع أيران أكلت الأخضر واليابس وأستنزفت معظم مصادر قوة الدولة العراقية. ثم جاء غزو الكويت تحت الشعار الجغرافي الشهير «عودة الفرع للأصل» ليأتي على ما تبقى من مصادر قوة للدولة العراقية طيلة العقد الأخير من القرن العشرين.
وانتهت مغامرة النظام البعثي في العراق بتقسيم فعلي -وليس قانوني- للفضاء الجغرافي العراقي الى اقليمَين أرضيَين (العراق الكوردي والعراق العربي)، وثلاث اقاليم جويّة بحسب خطوط العرض (اقليم شمال الخط 36، وآخر جنوب الخط 36 وثالث ما بين خطي 32-36)!! لقد ظلت لعنة الجغرافيا تلاحق العراق والعراقيين منذ تأسيس دولتهم في عام 1921 والى يومنا هذا، وكأن لعنة التاريخ لم تكفِ العراقيين حزناً وتفرقاً، فزادتهم الجغرافيا ألماً ودماً لم يتوقف.
أما على الصعيد المؤسسي فقد ظل العراق يعاني من مشكلتي الافتقاد الى البنية المؤسسية القاعدية والفوقية التي تضمن الاشراك السياسي للشعب في ادارة شؤونه. خذ مثلاً الأحزاب السياسية، والنقابات المهنية، والحكم المحلي كثلاث أمثلة واضحة على أهم مرتكزات البنية السياسية التحتية في العراق.
فحتى خلال العهد الملكي حيث أُنشأت ونشطت العديد من الاحزاب السياسية بمختلف توجهاتها الآيدلوجية، لكنها بقيت مقتصرة على النخب الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والبيروقراطية وعجزت عن أشراك الجماهير العريضة معها.
فحتى الحزب الشيوعي الذي تؤكد آيدلوجيته على تمثيلها الشعبي للطبقات الأدنى اقتصادياً عجزت لإسباب موضوعية وآيدلوجية عن أن تصبح حزباً جماهيرياً مؤثراً في حشد قوى الشعب. ولم يكن حال النقابات العمالية والفلاحية والمهنية أفضل، وبقيت في أفضل حالاتها قادرة على القيام ببعض الاضرابات المهنية والانشطة السياسية المحدودة.
أما بعد 14 تموز 1958 فقد بهتت بشكل أكبر صورة تلك الاحزاب والنقابات نتيجة سيطرة العسكر على مقاليد الحكم في العراق، وصولاً الى تلاشيها وأختفاءها الكامل (قسرياً) بعد تموز 1968! أما على صعيد الحكم المحلي في العراق والذي يفترض أن يضمن أشراك جماهير الشعب بإدارة حياتهم وشؤونهم اليومية فقد ظلت «الادارة المحلية» في العراق وطوال العهدين الملكي والجمهوري انعكاس وصدى للإدارة المركزية الشديدة التي كانت تسيطر على كل شيء ولا تترك أي شيء للمحليات! ولعل أوضح مثل على ذلك ما اثبتته اطروحتي للدكتوراه عن القيادات المحلية في العراق.
تنمية حضرية
فقد أظهرت الدراسة أن أكثر من 90 بالمئة من مديري النواحي وقائممقامي الاقضية والمتصرفين والمحافظين منذ تأسيس الدولة العراقية الى نهاية القرن الماضي كانوا أما ضباط أو خريجي قانون. فالامن والقانون، وليس التنمية الحضرية والاقتصادية والإشراك السياسي هي مقومات الحكم المحلي في العراق. بأختصار فقد عجزت كل النظم السياسية التي حكمت العراق منذ تأسيسه ولغاية 2003، ولو بدرجات متباينة، في جعل الشعب جزءً حقيقياً من قوة الدولة وتركيبها السياسي، وتركته خارج حسابات معادلة القوة السياسية.
ولم تكن الدولة سوى ممثل للقابضين على السلطة من نخب عسكرية وبيروقراطية واقتصادية واجتماعية لا تمثل سوى نسبة ضئيلة جداً من العراقيين الذين يفترض طبقاً لتعريف الدولة اعلاه ان يكونوا أحد اعمدة السياسة وفاعليها، وليسوا مجرد مادة لها أو مفعول بهم! وهذا ما فاقم من مشكلة القوة السياسية في العراق وجعلها اضعف في مواجهة القوى الاجتماعية الثلاث الاخرى (الآيدلوجيا، والاقتصاد، والعسكر).
ولم يكن حال البناء المؤسسي الفوقي للدولة العراقية منذ تأسيسها، أفضل من حال بنيتها التحتية. فأذا كانت هناك (دستورياً على الأقل) سلطات ثلاث خلال العهد الملكي فأن السلطة الثالثة (البرلمان) قد تم وأدها تماماً بعد 1958 وحصر كل السلطات بيد الدولة، أو بيد المؤسسة العسكرية فعلياً.
وحتى بعد أن تم أضعاف القوة العسكرية، كما أسلفت سابقاً ضمن هذه السلسلة، بعد 1968 فقد أنتقلت السلطات الثلاث أكملها لتصبح بيد مجلس قيادة الثورة في البداية ومن ثم بيد رئيس الجمهورية بعد 1979. لقد أدى تغول السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية الى خلل مؤسسي كبير في القوة السياسية ليس هيكلياً فحسب، وأنما وظيفياً أيضاً، فقد تم بناء ثقافة مؤسسية قوية داخل الدولة العراقية تؤكد على عُلوية المؤسسة التنفيذية وتغولها على السلطات الأخرى. هذه الثقافة تسيدت المشهد بعد 2003 كما سيتم أيضاحه في المقالات القادمة.
اضف تعليق