يسمى اي تنظيم اجتماعي بالدولة وهي وجود تجمع بشري يتم تنظيمه وادارته من قبل مؤسسات معينة ضمن نطاق جغرافي محدد. وواضح انه لا يمكن ادارة هذه المؤسسات ما لم تمتلك القدرة على اجبار او اقناع الاخرين على التعاون لضمان الامن والاقتصاد والازدهار...

يقصد بالسلطة القدرة على جعل الاخرين يفعلون اشياء ما كانوا ليفعلونها بدون وجودها. والسلطة هنا لا تقتصر على السلطة القانونية بل تتعداها الى كل اشكال القوة القهرية او التعاونية، والرسمية وغير الرسمية، والخاصة او العامة. يختلف علماء الاجتماع في تحديد مصادر القوة الاجتماعية لكني اتبنى انموذج مايكل مان Michael Mann الرباعي - الايدلوجيا، الاقتصاد، الجيش والسياسة- بعد تعريقه ليناسب الظرف الاجتماعي للعراق حاليا.

عبر تاريخه المدون منذ بداية الحضارات في بلاد ما بين النهرين،شكلت القوة بمفهومها الموضح اعلاه، وليس بمفهومها الشائع، الواسطة الرئيسة التي يستخدمها الافراد والمجتمعات لتحقيق غاياتهم واشباع حاجاتهم. لم تكن هناك حاجة للقوة في عصور ما قبل التاريخ حينما كان الانموذج الاجتماعي السائد هو مجتمع المساواة.فالكل كان يعتمد على جمع الثمار والصيد لتامين معيشته ولم يكن هناك فائض من اي شيئ ليتم نبادله مع الاخرين. لكن مع نشوء الزراعة في السهل الرسوبي للفرات ودجلة ظهرت الفوائض الانتاجية وبدات مرحلة جديدة في حياة الانسان تطلبت مزيد من التفاعل الاجتماعي المبني على الحاجة للتعاون والتبادل(التجارة). 

هنا تم الانتقال من مجتمعات المساواة egalitarian society الى مجتمع الطبقات Rank Societies. فقد نشات طبقات غنية وقوية واخرى فقيرة وقليلة القوة،كما نشات مجتمعات او تجمعات بشرية لها نفوذ وقوة اكبر من الاخرى نتيجة ثرائها الانتاجي او موقعها التجاري او سوى ذلك من العناصر التي تزيد من تاثير الفرد والجماعة على الافراد والجماعات الاخرى.ومثّل ظهور دولة-المدينة في عراق ما بين النهرين المرحلة الثالثة من مراحل تطور الاجتماع البشري،اذ برزت الحاجة لاشكال مؤسسية من تنظيم وادارة وحماية هذه التجمعات البشرية ضمن نطاق جغرافي محدد وهو ما نسميه اليوم بالدولة. ثم انتقلت دولة المدينة الى المرحلة الرابعة في سلم تطور الاجتماع اليشري وهي مرحلة الدولة القومية nation state حيث تم توحيد دول المدن في دولة واحدة،لها سلطة واحدة وملك واحد.

نظرية الدولة

ومن هنا نشات النظرية الحديثة للدولة التي تؤكد على عناصر اساسية يجب توفرها ليسمى اي تنظيم اجتماعي بالدولة وهي: وجود تجمع بشري يتم تنظيمه وادارته من قبل مؤسسات معينة ضمن نطاق جغرافي محدد. وواضح انه لا يمكن ادارة هذه المؤسسات ما لم تمتلك القدرة على اجبار او اقناع الاخرين على التعاون لضمان الامن والاقتصاد والازدهار. هذه القدرة على الاجبار او الاقناع هي ما نسميه القوة السياسية والتي ستكون مدار تقاشنا في هذا المقال وما يليه ضمن هذه السلسلة التي بدات قبل اثنتي عشرة حلقة وتهدف لتحديد وتحليل مصادر القوة الاجتماعية في العراق.

لقد مثلت الدولة احد اعظم اختراعات التنظيم الاجتماعي الانساني منذ بدايات ظهورها في الفترة 5500-5000 ق.م. في جنوب العراق الحالي ولغاية يومنا هذا. وعلى الرغم من التغييرات الكثيرة والمتواصلة على اشكال الدول ووظائفها منذ ظهورها لليوم،الا ان حقيقة واحدة لم تتغير وهي الحاجة الماسة لوجود دولة، سواءً صغيرة كانت ام كبيرة،مركزية ام فيدرالية،اشتراكية ام راسمالية،جمهورية ام ملكية. فالعمران (اوالاجتماع) البشري كما يقول ابن خلدون لا بد له من سلطان،ولا بد من سياسة تنظم هذا العمران،ولا بد من وازع بدفع به الناس بعضهم بعضا وهو ما اسميته هنا بالقوة السياسية. انها القوة التي تتيح للدولة(حصرا) تنظيم وادارة شؤون المجتمع او المجتمعات الخاضعة لسيطرتها سواءً على الصعيد المركزي او المحلي. يلاحظ ان القوة السياسية كما تم تعريفها هنا هي قوة مؤسسية(تمارس من خلال مؤسسات) مدعومة بسلطة قانونية لها امكانية القسر ضمن نطاق جغرافي محدد. هذه القوة قد تمارس ضمن مؤسسات الدولة نفسها او المؤسسات الدولية(الدبلوماسية) التي هي عضو فيها.كما انها قد تمارس من خلال الاجبار او الاستبداد او من خلال الاقناع او القانون.

لقد افتقد العراق عند تاسيسه في عام 1921 الى عنصرَين اساسيين للقوة السياسية، كما تم تعريفها هنا، وهما المؤسسية والجغرافية. فقبل 1921 كانت حدود العراق غير موجودة،لان العراق نفسه كدولة لم يكن موجودا. وعلى الرغم من ان العراق كان مقسما لثلاث ولايات عثمانية،الا ان حدودها النهائية لم تكن محددة تماما فضلا عن انها كانت ولايات مستقلة تتبع للحكم العثماني في اسطنبول مباشرة. لذلك ومع بداية التاسيس برزت مشاكل حدودية مع معظم جيران العراق حول الموصل وكوردستان والاهواز ومناطق اخرى. كانت هذه المشاكل،وبغض النظر عما انتهت اليه،عنصرا مضعِفا للدولة العراقية الفتية وسبب لها الكثير من التبعات السلبية. اما على الصعيد المؤسسي،فقد اعتمدت الدولة العراقية على مؤسستي البيروقراطية،وهي موروثة من العثمانيين غالبا،وعلى المؤسسة العسكرية والتي تشكلت قبل تشكيل الدولة باكثر من سنة وكانت من القوة بحيث كانت تنافس المؤسسة السياسية بل وتتفوق في قوتها عليها احيانا وهو ما كان واضحا في عدد الانقلابات والتمردات العسكرية من جهة،وفي حجم اشغال العسكر للمناصب القيادية في الدولة الفتية من جانب اخر.

نوايا طيبة

وبغض النظر عن النوايا الطيبة لمؤسس العراق الحديث (فيصل الاول رحمه الله) ومشروعه لبناء دولة قوية، الا ان اكبر فشل يسجل على النظام الملكي(ربما لاسباب خارجة عن ارادته) هو الاعتماد على مؤسستي الجيش والبيروقراطية فقط وعدم قدرته على بناء مؤسسات سياسية قوية (كالبرلمان) موازية،وموازنة، لهاتين المؤسستين وقابلة للاستمرار. لقد ظل النظام الملكي معتمدا على دعم القوى التقليدية الممثلة بالشيوخ والاغوات وكبار الملاك والذين شكلوا حوالي 45 بالمئة من برلمانات ذلك العهد في حين كان تمثيلهم المجتمعي اقل من ذلك بكثير .

والحقيقة ان كل النظم التي حكمت العراق بعد تاسيس الدولة الحديثة 1921 فشلت في بناء مؤسسات سياسية واجتماعية بديلة عن المؤسسات التقليدية وبقي الحراك الاجتماعي والمكانة يعتمدان بشكل رئيس على الانضمام للجماعة والولاء لها، وليس على الانجاز الفردي. وكان هناك فشل ذريع،منذ تاسيس العراق الحديث الى يومنا هذا في ايجاد مؤسسات قادرة على استثمار راس المال الاجتماعي وتطويره،وتعبئة اكبر قدر من المواطنين ضمن نطاق الدولة.

لقد ادى هذا العجز المزمن في حشد وادماج العراقيين ضمن مشروع الدولة،الى فجوة بل عداء في كثير من الاحيان بين العراقي ودولته. وبقيت الدولة تُحترم اما شكليا او خوفا من سطوتها .

لذا بقيت مناطق جغرافية كثيرة (خارج المدن الرئيسة) غير خاضعة لسلطة الدولة فعلا او على عداء دائم معها. كما كنا نشهد على مر الزمن منذ تاسيس الدولة للان سرعة انقضاض المواطنين على املاك الدولة ومنشاتها حالما يستشعرون ضعفها او زوالها،كما حدث ذلك في مرات عديدة اخرها ما سمي ب»الحواسم». لكن ما هي اهم نقاط قوة وضعف الدولة العراقية والتي تؤثر في قوتها السياسية؟ هذا ما ستتم مناقشته باستفاضة لاحقا.

اضف تعليق