آراء وافكار - مقالات الكتاب

مصادر القوّة والسلطة في العراق

القوة العسكرية الجزء الخامس

لقد ادرك الاحتلال الامريكي بسرعة حجم الخطأ الاستراتيجي الذي وقع فيه بحله للجيش السابق وما تركه ذلك من فراغ امني يصعب على قواته محدودة العدد ان تسده في ظل مساحة العراق الكبيرة، وتدخلات دول الجوار، وتعقد المشهد السياسي والاجتماعي فيه، وتصاعد عمليات المقاومة للاحتلال والتي كانت تشن من تنظيمات مختلفة...

لقد ادرك الاحتلال الامريكي بسرعة حجم الخطأ الاستراتيجي الذي وقع فيه بحله للجيش السابق وما تركه ذلك من فراغ امني يصعب على قواته محدودة العدد ان تسده في ظل مساحة العراق الكبيرة، وتدخلات دول الجوار، وتعقد المشهد السياسي والاجتماعي فيه، وتصاعد عمليات المقاومة للاحتلال والتي كانت تشن من تنظيمات مختلفة (سنية وشيعية، وطنية وخارجية، مؤدلجة وغير مؤدلجة).

انحياز سياسي

لذا صدر قرار (بريمر) رقم 22 في اب 2003 القاضي بتشكيل ما اسماه «الجيش العراقي الجديد». وبقدر تعلق الامر بهذا المقال فان كلمة (الجديد) التي اكد عليها القرار في عدة مواضع فيه، لا تؤشر فقط انه مختلف عن سابقه من حيث التنظيم والتدريب والتجهيز…الخ، بل تعني ان له دورا جديدا يحظر عليه الانحياز السياسي، وهو ما تم تضمينه فيما بعد في المادة 9 من دستور العراق. وفي نفس الوقت فهي تشير الى ارادة امريكية واضحة لفصل الجيش الحالي عن سابقه من حيث التاريخ والثقافة وكل شيء.

كما نصت المادة 3 اولا من ذلك القرار على ان المهمة الاساسية لهذا الجيش»الجديد» هي (مساعدة قوات التحالف) على حفظ الامن طوال مدة وجود قوات التحالف في العراق!! اما بعد مغادرة تلك القوات فسيترك للحكومة العراقية حرية القرار العسكري حينما تنتقل السلطة لها.

فالجيش العراقي «الجديد»، الذي كان يتلقى اوامره بالكامل من جيش الاحتلال في تلك المرحلة التاسيسية، كما نص على ذلك قرار تاسيسه، كان قد انشىء اذا لمساعدة قوات التحالف اساسا، لذا كان من الطبيعي ان يتم تصميمه لكي يتناسب مع رؤية المحتل واعوانه لدور الجيش ووظائفه وليس ليكون احد مصادر قوة المجتمع!

هذا لا يعني باي حال انه لم يصمم لخدمة العراق وشعبه، بل يعني ان مؤسسي هذا الجيش قد صمموه ليخدمهم ابتداءً، وهذا ما يعيد للاذهان ما اراده المحتل البريطاني من تاسيسه للجيش العراقي السابق في 1921.

ولعلها مفارقة تاريخية نادرة ان تتم ولادة الجيش مرتين من قبل قوات الاحتلال وليس الشعب العراقي. هذا بالطبع ليس ذنب الجيش ولا العراقيين، ولا يسيء لهما، بقدر ما يوضح الظروف السياسية التي اثرت في الجيش ودوره في الحياة السياسية والاجتماعية في العراق.

مجاميع مسلحة

وعلى الرغم من ان قانون تشكيل الجيش الجديد نص فقط على استبعاد الرتب العالية في الجيش السابق (عقيد فما فوق) من الجيش الجديد، ودعا بقية الضباط للالتحاق فان كثير من الضباط (السنة) امتنعوا عن الالتحاق اما خوفا من اتهامهم بالتعاون مع المحتل مما يهدد سلامتهم وسلامة عوائلهم من قبل المجاميع المسلحة الناشطة في مناطقهم انذاك، او لقناعتهم الشخصية بعدم التعاون مع المحتل والنظام الجديد سواءً نتيجة رؤيتهم الذاتية، او تاثرا ببعض مشايخهم الدينيين (كالشيخ حارث الضاري).  

ومثلما ادى امتناع العرب (السنة) عن الانخراط في العملية السياسية الى اضعاف موقفهم وتمثيلهم كثيرا في تلك العملية، فقد ساعد عدم اقبال الضباط العرب (السنة) والذين كانوا يشكلون النسبة الاكبر من ضباط الجيش السابق في ميل كفة التمثيل الطائفي في الجيش الجديد لصالح العرب (الشيعة) بالدرجة الاساس والكورد بالدرجة الثانية.

هذا الاختلال وهذه القناعة لدى العرب (السنة) بعدم تمثيل الجيش الجديد لهم كانت له انعكاسات سلبية ظهرت بعض نتائجها في الفجوة التي كانت موجودة بين الجيش العراقي والعراقيين (السنة) في المرحلة اللاحقة والتي سبقت احتلال داعش للمناطق ذات الغالبية (السنية).

لقد ساهمت بعض الممارسات الاخرى لقادة جيش الاحتلال والقيادات السياسية والعسكرية العراقية التي تعاونت معه في تكريس النزعة الطائفية داخل الجيش بحيث باتت المحاصصة لا الكفاءة هي الاساس في اختيار قادة الجيش الجديد.

هنا اشير الى الاتفاق (المحاصصي الطائفي) الذي حصل بخصوص مناصب رئيس اركان الجيش ومعاونيه الاربعة والامين العام لوزارة الدفاع، كما شهدت مرحلة تأسيس الجيش (الجديد) ايضا بدايات ظهور التنظيمات المسلحة الموازية والمنافسة للجيش.

وانقسمت تلك التنظيمات والميليشيات الى قسمين رئيسين: فمنها من كان خارج سيطرة الدولة كالميليشيات الحزبية، ومنها ما عُدّ جزءً من المنظومة العسكرية للدولة مثل قوات البيشمركة في كوردستان التي مُنحت وضعا قانونيا تحت مسمى حرس الاقليم من خلال امر سلطة التحالف المؤقتة (بمثابة قانون انذاك) رقم 91 لسنة 2004 وبما يميزها عن الميليشيات التي منع هذا القانون (ومن بعده الدستور) تشكيلها خارج نطاق الدولة.

ان هذا القانون ذاته هو الذي وجه ضربة قوية لهذا الجيش (الجديد) عندما سمح بدمج عناصر ميليشيات الاحزاب السياسية التي كانت تعمل ضد النظام السابق ضمن تشكيلات القوات المسلحة العراقية (الجيش والشرطة) ومنح افرادها رتبا وامتيازات لا تتناسب وامكاناتهم المهنية مما اساء كثيرا لمهنية الجيش (الجديد) وكفائته وانضباطه. 

نتيجة لذلك يمكن القول ان هذه المرحلة التاسيسية شهدت بوادر تشكيل المنظومة الهجينة Hybrid الحالية للقوة العسكرية في العراق والمكونة من جيش نظامي وجيش موازي وميليشيات عقائدية واخرى مناطقية وثالثة دينية وطائفية.

لقد بدات ملامح تشكيل تلك المنظومة (الهجينة) بالتشكل بوضوح اكبر بعد انسحاب الجيش الامريكي من العراق واستلام القوات العراقية للمسؤولية الكاملة عن امن الحدود والامن الداخلي للعراق وهو ما سيتم التطرق له في المقالة القادمة.

اضف تعليق