كثيرون في الطبقة السياسية الفلسطينية أصبحوا على درجة من الكلاحة السياسية تستفز كل صاحب ضمير حي لأن أضرار ممارساتهم لا تقتصر على الفساد والإفساد بل تتعدى ذلك لتمس بالمصالح الوطنية العليا ولأن وجودهم واستمرارهم في السلطة يشكل إهانة واحتقارا الشعب الفلسطيني العظيم، ولا نبالغ إن...
يأخذ عليَّ بعض الأصدقاء تزايد كتاباتي في الفترة الأخيرة عن الوضع الفلسطيني الداخلي وانتقادي لقيادة السلطة الفلسطينية والمقاومة وخصوصا حركة حماس، وفي نظرهم أن خطورة المرحلة تتطلب تجاوز الخلافات الداخلية وجلد الذات والتأكيد بدلا من ذلك على الوحدة الوطنية. مع احترامي لهذا الرأي إلا أن هناك بعض الأمور يجب توضيحها.
يمكن للكاتب أن يقارب الواقع الفلسطيني أو العربي بخطاب ملتبس ومجامِل للأنظمة والطبقة السياسية ليكتسب رضا الجميع ويحقق من خلال رضاهم مصالح شخصية أو على الأقل يتجنب شرهم، ولكن هذا النهج يُفقد الكاتب مصداقيته لأنه يصبح شريكا في تضليل الجماهير ومساهما في تقديس الحكام وأفراد الطبقة السياسية وتسيدهم على الشعب.
في حالة كالحالة السياسية الفلسطينية الراهنة، عندما تكتب أو تتحدث بعقلانية وواقعية منتقدا أوجه الخطأ في النظام السياسي وفي سلوك الأحزاب بعيدا عن الشعارات والأيديولوجيات والحسابات الحزبية الضيقة، ستجد كثيرين يُقدِرون ما تكتب ويتقبلون الانتقادات، ولكن في نفس الوقت ستفتح على نفسك نار جهنم من بعض مكونات الطبقة السياسية بكل أطيافها، سلطة ومعارضة، يمين ويسار، متأسلمون وعلمانيون، ومن يدور في فلكهم من المثقفين والكَتبة عندما تكشف نفاقهم وأكاذيبهم وتهدد انتقاداتك مصالحهم ومواقعهم.
وبالتالي فإن الحكم على مصداقية وموضوعية أي كاتب أو مثقف أو مفكر سياسي يتأتى من خلال تجاوز مربع المجاملات وتلمس الاعذار للحاكمين والطبقة السياسية حتى تحت مبرر أن المرحلة تتطلب توحيد الجهود في مواجهة عدو يهدد وجودنا الوطني، أو أن الطبقة السياسية ترفع شعارات المقاومة وتمارسها، أو أنها تمثل الشعب وعلى رأس المشروع الوطني ولا يجوز الإساءة لها أمام العالم.
التهديد الوجودي للقضية الوطنية، مع حرب الابادة التي يشتها العدو في غزة ومتواصلة في الضفة، يشكل الحافز الأكبر للمطالبة بتغيير طبقة سياسية ثبت فشلها طوال عقود في وقف هذا التهديد أو حتى التوافق على استراتيجية وطنية لمواجهتها.
ومن هنا كانت انتقاداتي الحادة للطبقة السياسية، فإن لم يأخذ الشعب وقواه الحية والوطنية داخل الاحزاب والمفكرين والمثقفين المبادرة لإصلاح النظام السياسي فإن أطرافا خارجيا ستصنع لنا قيادتنا ونظامنا السياسي حسب أجندتها ومصالحها في المنطقة، وعملية صناعة قيادة من الخارجية تجري بالفعل.
انتقادنا القاسي للطبقة السياسية والمطالبة بالتغيير والإصلاح من خلال العودة للشعب لا يعني عدم وجود فروقات بين الطبقة السياسية في حماس والطبقة السياسية في منظمة التحرير، ولكن الأزمة ومظاهر الفشل تعم الجميع وحتى لو اقتصرت انتقاداتنا على حركة حماس فهذا لا يعني أنه من الممكن المراهنة على المنظمة وحركة فتح والسلطة في وضعهم الراهن للخروج من الأزمة وإنقاذ المشروع الوطني التحرري.
انطلاقا من ذلك ومع إيماني بأن خطورة التحديات الخارجية تتطلب توحيد المواقف والجهود والبحث عن نقاط الالتقاء وتعظيمها والعمل على استراتيجية وطنية تجمع ما بين الحق بمقاومة الاحتلال والعمل السياسي والدبلوماسي، وتطبيق النظرية التي تقول بتجاوز الخلافات الداخلية في حالة وجود خطر مصيري يهدد الأمة، وهي نظرية المفكر الفرنسي هنري لوفيفر والتي استخلصها من تجربة المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي في الحرب العالمية الثانية، وقد تطرقنا للموضوع سابقا في عدة مقالات منها مقال نشرته يوم 23 سبتمبر 2018 يحمل عنوان (تجاوز الخلافات الداخلية لمواجهة العدو المشترك) وهو منشور في أكثر من صحيفة وموقع...، إلا أن ما لاحظناه أن التهديد الوجودي لقضيتنا أرضا وشعبا لم يؤدي لوحدة النظام السياسي بل تزايدت الخلافات الداخلية، وحدث الانقسام وزاد تَدخُل الأطراف الخارجية في شؤوننا الداخلية وتراجعت الحصانة الداخلية للمجتمع وأصبحت مصلحة الأحزاب أهم من المصلحة الوطنية، حتى حرب الابادة الأخيرة لم تخرج النظام السياسي من ركوده أو تدفع لتجاوز الخلافات الداخلية بل تفاقمت حتى حوارات المصالحة العبثية وصلت لطريق مسدود وحلت محلها مفاوضات تقودها حماس منفردة حول غزة فقط ومستقبلها بعد الحرب!.
آنذاك أصبحت متخوفا بأن تضحيات الشعب وحوالي مائة ألف ما بين شهيد ومفقود وضعفهم من الجرحى والأسرى وحالة التأييد الشعبي العالمية المتزايدة لقضيتنا الوطنية واكتساب الرواية الفلسطينية مزيا من الأنصار والمؤيدين... قد تذهب هباء منثورا ان استمر النظام السياسي على حاله والطبقة السياسية سادرة في غيّها واستمر غياب حاضنة وطنية جامعة، ولن تنفع كل الكتابات التي تتغنى بالمقاومة وبطولاتها أو تشيد بالمنظمة ورئيسها.
اليوم وبعد الحرب على غزة ومحاولة تصفية القصية الوطنية، يمكن القول بأن الطريق لمواجهة مخطط التصفية تمر من خلال تغيير الطبقة السياسية الحاكمة في الضفة وغزة، أما السعي لتحقيق مصالحة الآن بين الأحزاب –كالمحاولة العبثية وغير المفهومة التي تقوم بها الصين لرفع العتب- فلن يؤدي إلا لشرعنة طبقة سياسية فاشلة وتقاسم المغانم وإدارة الانقسام بين السلطتين، وحتى على هذا المستوى فشلوا وما زال كل طرف يتخندق في موقعه وينتظر هزيمة وانهيار الطرف الثاني ليزعم أنه كان على صواب.
مثلا لو سكتنا عن الوضع الداخلي واستمرينا في مدح وتمجيد القيادة والأحزاب وبطولات المقاومين فهل يمكن للطبقة السياسية الراهنة المنقسمة على نفسها والمتصارعة مع بعضها البعض أن تحقق أي نصر أو تحمي الشعب مما يتعرض له من حرب إبادة؟ وإن لم يكن الوقت مناسبا للانتقاد والمطالبة بعمل مراجعات لكل الأحزاب والطبقة السياسية، فمتى سيكون الوقت المناسب وقد صبر الشعب على الأحزاب أكثر من ثلاثين سنة لعمل مصالحة وإنجاز وحدة وطنية بدون فائدة؟
أيضا إذا كان حتى الآن لا يوجد أي توافق على مستقبل غزة بعد الحرب، فكيف لو تم تجاوز الفيتو الأمريكي واعترف العالم بالدولة الفلسطينية فما هي الخطوة اللاحقة؟ هل ستقوم الدولة في الضفة وغزة التي تصر حماس على استمرار سيطرتها عليها؟ وهل ستفوض حركة حماس منظمة التحرير مهمة استكمال الإجراءات العملية لتجسيد هذا المُنجز؟ أم تنسب الفضل لها ولمقاومتها؟ وهل السلطة الوطنية في وضعها الراهن تستطيع مد سلطتها إلى غزة وتجسيد سيادة الدولة عليها؟ ما نخشاه أن يُفسد الانقسام هذا المنجز حتى وإن كان معنويا وسياسيا ويتم الصراع حول من يقود عملية التفاوض اللاحقة ممثلا للشعب وصراع على من يحكم هذه الدولة الوليدة.
وأخيرا، كثيرون في الطبقة السياسية الفلسطينية أصبحوا على درجة من الكلاحة السياسية تستفز كل صاحب ضمير حي لأن أضرار ممارساتهم لا تقتصر على الفساد والإفساد بل تتعدى ذلك لتمس بالمصالح الوطنية العليا ولأن وجودهم واستمرارهم في السلطة يشكل إهانة واحتقارا الشعب الفلسطيني العظيم، ولا نبالغ إن قلنا إن الطبقة السياسية الفلسطينية الحالية هي الأسوأ في التاريخ الفلسطيني المعاصر.
اضف تعليق