الارتفاع الطفيف في النمو العالمي قد يخفي مشاكل كبيرة، مثل الانقسامات الجيوسياسية، والاضطرابات السياسية، والحمائية التجارية، والاضطرابات المرتبطة بالمناخ، وعدم كفاية الحماية للفئات السكانية والبلدان الضعيفة. ومن المرجح أن تلحق التأثيرات السلبية الناجمة عن النزعة القومية الاقتصادية والحمائية التجارية أكبر قدر من الضرر بالبلدان النامية الصغيرة...
بقلم: إسوار براساد، كارولين سميلتنيكس
إيثاكاـ عندما يرزح العالم تحت عبء الصراعات الجيوسياسية، وسياسات الحماية، والتضخم المستمر، فإنه يلقي بثقله على النمو الاقتصادي. ولكن في حين يُظهِر آخر تحديث لمؤشرات تتبع التعافي الاقتصادي العالمي الذي أعدته "بروكينغز وفايننشال تايمز" أن النمو العالمي استقر عند مستوى ثابت، فإن التعافي الاقتصادي في بعض البلدان يعطي بصيص أمل في احتمال حدوث انتعاش في العام المقبل.
وتختلف وتيرة النمو الاقتصادي اختلافا كبيرا بين البلدان، خاصة بين اقتصادات العالم الرئيسية. إذ في حين حافظت الولايات المتحدة والهند على أداء قوي، فإن الاقتصاد الصيني آخذ في التباطؤ. وتتجلى هذه الاختلافات أيضاً داخل منطقة اليورو، حيث أصبحت ألمانيا على حافة الركود، في حين فاق الأداء الاقتصادي لإيطاليا وإسبانيا كل التوقعات.
ويكمن التباين الثاني بين النتائج الاقتصادية الفعلية والأسواق المالية، حيث تشهد أسواق الأوراق المالية انتعاشا حتى في البلدان التي تتسم بنمو ضعيف وسياسات نقدية متشددة. وفضلا على ذلك، تشهد مستويات ثقة الأسر المعيشية والشركات ارتفاعاً في مختلف أنحاء العالم، مع أن هناك حالة عدم يقين متزايدة جراء التحولات الجيوسياسية والسياسات المحلية المتقلبة.
وقد تكون مكاسب أسواق الأسهم وارتفاع مستويات الثقة مؤشرا على احتمال حدوث ارتفاع طفيف في النمو العالمي في عام 2024، خاصة إذا استمر التضخم في الانخفاض، مما سيمكن البنوك المركزية من خفض أسعار الفائدة. ولكن قد تتضاءل هذه النظرة المتفائلة بسبب تصاعد التوترات الجيوسياسية، والاضطرابات السياسية الداخلية في عدد من البلدان، والضغوط التضخمية المستمرة. وفضلا على ذلك، فإن اعتماد الصين وألمانيا على الطلب الخارجي بدلا من السياسات المحلية التحفيزية من شأنه أن يقوض علاقاتهما التجارية والنمو الاقتصادي العالمي.
لقد أثبت الاقتصاد الأميركي قدرته على الصمود على نحو ملحوظ، حيث عززت سوق العمل التنافسية إلى جانب ارتفاع أسعار الأسهم ثقة الشركات والمستهلكين وحفزت الطلب المحلي. ومع أن بنك الاحتياطي الفيدرالي حافظ على أسعار الفائدة المرتفعة، فإن مكاسب الإنتاجية والهجرة مكنت الاقتصاد الأميركي من الحفاظ على النمو دون تفاقم التضخم. ومع أن بنك الاحتياطي الفيدرالي يتمتع بالمرونة اللازمة لتأخير التيسير النقدي، فإن ديناميكيات التضخم لا تزال تجعل من الصعب تحديد التوقيت الأمثل لتغيير السياسات.
ومن ناحية أخرى، بدأت اليابان أخيراً في تطبيع سياستها النقدية. ومع ازدهار أسواقها المالية واستعادتها للثقة، يبدو أن الوضع الراهن للبلاد يشير إلى أنها ستشهد عاما أخر من النمو المعتدل. وفي المقابل، أصبحت المملكة المتحدة على حافة ركود طويل الأمد، ولو أنه معتدل؛ ويرجع ذلك إلى التضخم المستمر، والمرونة المالية المحدودة، وعدم الاستقرار السياسي الداخلي.
وفي حين لا يزال الاقتصاد الصيني يواجه صعوبات، فقد قدمت الحكومة حوافز إضافية للاقتصاد الكلي، واتخذت تدابير لدعم أسواق العقارات والأسهم المتعثرة. ولكن فعالية هذه التدابير تتقوض بسبب غياب الإصلاحات الشاملة اللازمة لإعادة بناء ثقة القطاع الخاص. ويمكن أن تحد الصين من ضعف الطلب الأسري والضغوط الانكماشية، ومن تُعزز الثقة بين المستثمرين المحليين والدوليين، باعتمادها لحزمة سياسات أكثر فعالية، تشمل تقديم المزيد من الدعم المالي.
وتستعد الهند من جانبها لاستقبال عام آخر من النمو القوي المدعوم بانتعاش سوق الأوراق المالية، وهوما يَدُل على تفاؤل الأسر والشركات. بيد أنه رغم تراجع مستويات التضخم والانضباط المالي للحكومة، فإن التوقعات ليست إيجابية تماما، ويتجلى ذلك في تراجع سوق الشغل والاستثمارات الأجنبية المباشرة. ومن أجل الحفاظ على زخم النمو، يتعين على صانعي السياسات في الهند تنفيذ الإصلاحات فيما يتعلق بالشئون الإدارية والتعليم، إلى جانب الاستثمار في البنية الأساسية.
وهناك بقاع أخرى مشرقة في آسيا. إذ من المتوقع أيضًا أن تشهد إندونيسيا، التي ستجني في وقت قريب عائدا ديموغرافيا بفضل سكانها الشباب، نموا سريعا في عام 2024، شأنها في ذلك شأن الهند.
ومع أن الاقتصاد الروسي أظهر مرونة غير متوقعة على مدى العامين الماضيين، فلا ينبغي لنا أن نتجاهل ما تعانيه من صعوبات اقتصادية جراء العقوبات الغربية. ومع أن الزخم الذي حققته الجهود الحربية في أوكرانيا كبير، إلا أنه مؤقت وقد لا يكون مستداما أو يعزز نمو الإنتاجية.
ومن المتوقع أن تنمو الأرجنتين والمكسيك بنسبة 2-3 في المئة في عام 2024، في حين من المتوقع أن ينخفض النمو في البرازيل انخفاضا طفيفا. ولكن الانقسامات السياسية في هذه البلدان قد تؤدي إلى كبح الطلب المحلي وتثبيط المستثمرين الأجانب. ومن ناحية أخرى، كانت احتمالية خفض أسعار الفائدة في الولايات المتحدة وغيرها من الاقتصادات المتقدمة سبباً في تخفيف بعض الضغوط المفروضة على البلدان المنخفضة الدخل التي تعاني الأمرين مع ضائقة الديون، الأمر الذي أدى إلى تحسن آفاق نموها، ولكن هذه الأخيرة لا تزال ضعيفة.
ومن الأهمية بمكان أن الارتفاع الطفيف في النمو العالمي قد يخفي مشاكل كبيرة، مثل الانقسامات الجيوسياسية، والاضطرابات السياسية، والحمائية التجارية، والاضطرابات المرتبطة بالمناخ، وعدم كفاية الحماية للفئات السكانية والبلدان الضعيفة. ومن المرجح أن تلحق التأثيرات السلبية الناجمة عن النزعة القومية الاقتصادية والحمائية التجارية أكبر قدر من الضرر بالبلدان النامية الصغيرة.
ويتمثل التحدي الذي يواجه صانعي السياسات، وخاصة في الاقتصادات الكبرى، في وضع أطر سياسية تحد من عدم اليقين وتعزز ثقة الشركات والمستهلكين. ومن ناحية أخرى، يتعين على البنوك المركزية أن تواصل التركيز على استعادة استقرار الأسعار، كما يتعين على الحكومات أن تركز على السياسات المالية السليمة وإصلاحات جانب العرض.
اضف تعليق