النظام الرسمي العربي، المعني أكثر من غيره بمجريات الحال في غزة وفلسطين، أخفق في توظيف أدواته الدبلوماسية وأوراقه الضاغطة، لوقف حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. وحين لجأ هذا النظام، إلى دبلوماسية الإغاثة بديلاً عن الإغاثة بالدبلوماسية، أخفق مرة ثانية، في مد شريان حياة حقيقي لأزيد...
لم يكن يخطر ببال المقاومة الفلسطينية وهي تخرج إلى عملية السابع من أكتوبر 2023، بأن العواصم الشقيقة ستُجرد الجيوش والحملات العسكرية نصرة لها ولأهلها في فلسطين وغزة، بيد أنها بالتأكيد لم تكن تتوقع أن يكون النظام الرسمي العربي قد بلغ هذا المبلغ من الضعف والهوان، والذي لامس في بعض الأحيان، ومن قبل بعض العواصم العربية، حد التماهي مع أهداف الحرب الصهيونية على غزة وأهلها ومقاومتها.
كان يمكن الافتراض بأن بلوغ الحرب مرحلة "التطهير العرقي" و"الإبادة الجماعية"، سيكون كفيلاً بتحريك الساكن في المواقف العربية، دون "المجازفة" بدخول حرب على "توقيت المقاومة"، أو "المقامرة" بفتح الحدود لإمدادات السلاح والذخائر للقطاع المحاصر، أسوة بما فعلته عواصم غربية، دفعت بأساطيلها إلى شرق المتوسط، وشيّدت جسوراً جوية وبحرية، وفتحت أبواب خزائنها لحكومة الحرب الإسرائيلية الأكثر تطرفاً... كان يمكن تخيّل سيناريو تستنفذ فيه الحكومات العربية أدواتها الدبلوماسية، وتفعّل أوراق القوة التي بحوزتها، أقله لوقف شلال الدم الفلسطيني، والحيلولة دون إمّحاء مدن غزة وبلداتها وساكنيها عن الخريطة.
كان يمكن تخيّل سيناريو قيام الدول التي أبرمت معاهدات سلام أو أنجزت "سلاماً إبراهيمياً"، أو قطعت شوطاً كبيراً على هذا الطريق، بالتداعي لعقد اجتماع طارئ، تنذر فيه إسرائيل بقطع / تجميد / تعليق العمل بهذه المعاهدات والاتفاقات خلال أسبوع أو أسبوعين، إن لم توقف تل أبيب حرب التطويق والإبادة التي شنتها (وما تزال) على قطاع غزة...كان يمكن الافتراض بأن هذه الدول، ستعمد إلى استدعاء سفراء إسرائيل في عواصمها لتوبيخهم على الأقل، حتى لا نقول طردهم وإغلاق سفاراتهم، وسحب سفراء هذه الدول من تل أبيب.
وحين كشّر الغرب عن أنيابه، واستعاد صورته الاستعمارية الأولى بكل فظاظتها ووحشيتها، كان بمقدور الدول الشقيقة أن تمارس معه، لعبة "التلكؤ" في استقبال موفديه ورسله إلى عواصمها، واللجوء إلى تكتيك "المماطلة" في إبرام أو تنفيذ "الصفقات المليارية" مع شركاته العابرة للقارات والجنسيات، أقله لإشعار هذا الغرب، بأن له مصالح استراتيجية أيضاً، مع نصف مليار عربي، ربما تكون أهم بكثير من مصالحه مع سبعة ملايين يهودي إسرائيلي، ضربهم التطرف الديني والقومي، حتى أعمى بصيرتهم وأبصارهم... كل هذا، وكثيرٌ غيره لم يحدث، وظلت عواصم العرب تتعامل مع إسرائيل وشركائها في الجريمة على قاعدة: “Business as usual”.
أكثَرَ الزعماء والمسؤولون العرب من إصدار بيانات الشجب والإدانة في بواكير الحرب الإسرائيلية على غزة، قبل أن يسأموا من تدبيج المزيد منها، لفرط إصدارهم بيانات "القص والتلصيق – Copy & Paste"، وتحولوا مع مرور الأسابيع والأشهر، إلى كتاب ومحللين سياسيين، يبدعون في تصوير حجم الكارثة الإنسانية المصبوبة فوق رؤوس نساء غزة وأطفالها، ويكررون بلا كلل أو ملل، دعواتهم الممجوجة، لوقف المذبحة ومنع التهجير وإدخال المساعدات إلى غير ما هنالك مما بات محفوظاً عن ظهر قلب.
وحين كانت أصوات شعوبهم تتعالى مرددة عذابات أهل القطاع، ومطالبة بفتح الحدود وإدخال المساعدات، والمقاطعة وقطع العلاقات مع إسرائيل، كان "كتاب البلاط" في كثيرٍ من عواصمنا، ينبرون للدفاع عن المواقف السلطانية، ملتجئين إلى أكذوبة مفادها إن إبقاء العلاقات مع إسرائيل ضرورة لتسهيل انسياب المساعدات إلى غزة المحتاجة، والحيلولة دون موت سكانها لنقص في الثمرات والدواء والغذاء... بيد أنهم أخفقوا في هذا وذاك، أخفقوا حين عجزوا عن إنفاذ قرار قمتهم العربية – الإسلامية الطارئة بكسر الحصار على غزة، وأخفقوا حين عجزوا عن تلبية نداءات شعوبهم وشعب فلسطين، فكانوا كالمنبّت: لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
وبعد أن تبدت "قلة حيلتهم" في فتح المعابر البرّية، وفي مقدمها معبر رفح المصري – الفلسطيني، لجأوا إلى الجو، فكان إسقاط المساعدات من السماء على الجوعى والمرضى في شمال القطاع، ذروة "دراما العجز العربي"، ليس لأن ما يسقط على ثلاثة أرباع مليون محاصر، لا يسد رمقاً فحسب، بل لأنه تعيّن على أهل غزة، دفع 400 شهيد وأضعافهم من الجرحى، المنتظرين بيأس هبوط المساعدات من السماء، دع عنك عشرات الشهداء والجرحى الذي قضوا جراء "السقوط الحر" لهذه المساعدات فوق رؤوسهم، فكانت وبالاً عليهم وعلى أسرهم وذويهم.
واليوم، تنخرط دول عربية بنشاط في مشروع "الممر البحري والجسر الأمريكي العائم"، لكأنها وجدت فيه ضالتها بعد أشهر من التيه، ومن دون إبداء ذرة احترام واحدة، لعقل المواطن وذكاء الرأي العام في فلسطين و"بلاد العرب أوطاني"، الذين نظروا إلى هذا المشروع المفخخ بكثير من الشك والريبة، وصدّقوا ما قاله يوآف غالانت عن أهدافه ومراميه أكثر مما استمعوا للأبواق الإعلامية العربية والغربية "المسيّرة عن قرب وليس عن بعد"، إذ رأى في "الممر والجسر" أداة عملاقة لاستحداث الفجوة بين المقاومة وحاضنتها، وخلق ديناميات جديدة تنتهي بالقضاء على "حكومة حماس ونفوذها"، مفترضاً أنه بعد ستة أشهر من حرب التجويع والتعطيش، فإن من يملك المساعدات يتملك الرأي العام.
ومن دون التقليل من أهمية إمداد أهل القطاع بالمساعدات والإغاثة الفورية والعاجلة، فإن المراقب عن كثب لدوافع من يُقدِمون على تقديمها، عرباً وغربيين، سيستنتج لا محالة، إن معظم هذه الأطراف إنما تفعل ذلك لأسباب سياسية في المقام الأول، وقلة منها تفعلها لأسباب إنسانية خالصة... منها دوافع تتعلق بمشاريع "ما بعد الحرب على غزة"، وضرورات اقتلاع ظاهرة المقاومة بوصفها شاهداً على سقوط أساطير التفوق الإسرائيلية من جهة، ودلالة على مستوى الاهتراء الذي أصاب المنظومة العربية الرسمية، واتساع الفجوة بين حكوماتها وشعوبها من جهة ثانية...
ومنها دوافع تتعلق ببحث أنظمة غربية عن "ورقة توت" تَستُر بها شراكتها في جرائم الحرب الإسرائيلية، وفقدانها "القوة الناعمة" التي طالما مكّنتها من التفوق على خصومها الدوليين... ومنها "ضرورات" تتصل بالحملة الانتخابية الرئاسية الأمريكية التي تهتز فيها حظوظ بايدن وحزبه الديمقراطي على إيقاع المجازر الإسرائيلية ضد مدنيي القطاع.
والخلاصة، أن النظام الرسمي العربي، المعني – نظرياً - أكثر من غيره بمجريات الحال في غزة وفلسطين، أخفق في توظيف أدواته الدبلوماسية وأوراقه الضاغطة، لوقف حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي... وحين لجأ هذا النظام، إلى "دبلوماسية الإغاثة" بديلاً عن "الإغاثة بالدبلوماسية"، أخفق مرة ثانية، في مد شريان حياة حقيقي لأزيد من مليوني فلسطيني محاصر بالجوع والمرض، ضع جانباً الخراب والتدمير الناجم عن إسقاط ما يعادل ستة قنابل نووية (من وزن قنبلة هيروشيما) فوق رؤوس أطفاله ونسائه.
اضف تعليق