على مدار السنوات الماضية بعد العام 2003، كان الاكراد هم المستفيد الاكبر من التغيير الذي قادته امريكا ومن تحالف معها، وكان هذا جزءا مما حلم به مصطفى البارزاني في الستينات حيث رغب بتدخل امبريالي اكبر، لا اقل، في المنطقة. وكان يكرر التعبير عن (مشاعره الحارة تجاه الولايات المتحدة التي اراد هو لكردستان ان تنضم اليها بصفتها الولاية الحادية والخمسين، والتي كان مستعدا لمنحها حق السيطرة على النفط في كردستان مقابل دعمها. (مارتن فان بروينسن/الآغا والشيخ والدولة.. البنى الاجتماعية والسياسية لكردستان/ج1).
المهم، حصل ما حصل، واصبح الأكراد قوة لا يستهان بها في العراق الجديد، وهذه المرة خرجوا من حيزهم الجغرافي الذي استثمروه في التسعينات، ليكون لهم صوت مسموع في بغداد، حيث الحكومة المركزية.
وقد فطن القادة الاكراد منذ البداية الى تأثير الاعلام في العراق الجديد (ليس بالضرورة ان يكون اعلاما مهنيا) فعملوا على تأسيس الكثير من المؤسسات الاعلامية والصحف وبعد ذلك الفضائيات التلفزيونية، مع ما يتبع ذلك من شراء للأقلام والاصوات للاستفادة منهم في الدفاع عن طروحاتهم القومية والانفصالية التي ستتكرس لاحقا بدعوات صريحة، واحيانا مبطنة بالتهديد للحكومة المركزية عند اي مفترق للطرق تظهر فيه الخلافات.
وكانت الخلافات كثيرة، آثر فيها القادة الكرد في البداية الوقوف مع القادة الشيعة بحكم المظلومية التاريخية للاثنين من قبل جميع الحكومات المتعاقبة على حكم العراق منذ تأسيس دولته.
اذا كانت المظلومية الشيعية تستند وتستنجد بالأكثرية السكانية في طروحاتها فان المظلومية الكردية، استندت واستنجدت بالرغبة في الحفاظ على كيانها شبه المستقبل مع الرغبة في توسيعه الى دولة كردية تشمل اكراد (ايران-- سوريا – تركيا) وكان السيد مسعود البارزاني وريث الحركة القومية الكردية هو المتحدث الابرز في هذا المجال، وليس هناك من منافس له في مجتمع قبلي، عشائري، لم تستطع الحركات اليسارية ان تنازعه مكانته الموروثة.
خلال كل تلك السنوات حكم القادة الكرد اقليمهم عبر التفاهمات على الحصص ومناطق النفوذ، وكذلك في بغداد، وهي تفاهمات يمكن اختراقها بين فترة واخرى في بعض التفاصيل الجانبية، الا ان الاطار العام هو الدفاع عن المصالح الكردية ضد الاخرين، ومحاولة الحصول على اكبر حصة من الكعكة العراقية (النفط – المناطق المتنازع عليها – الامتيازات الحكومية في بغداد).
من المعروف في مجتمعاتنا ونظمنا السياسية ان الزعامة لا تحب المشاركة مع الاخرين، فالزعيم يجب ان يكون هو الاوحد، وهو القائد الضرورة، منه يبتدأ كل شيء واليه ينتهي.
شكلت فترة ظهور المالكية (نسبة الى نوري المالكي) على الساحة السياسية العراقية ميدانا للصراع مع بقية الزعامات السياسية (الصدر – الحكيم – علاوي) مع جماعات سنية ليست لها زعامة واحدة واضحة ومحددة، مع زعامة متفردة في اقليم كردستان بعد ان غيب المرض جلال الطالباني، لكنه افرز زعامة جديدة تبحث عن مكان لها وهو نوشيروان مصطفى الذي انشق عن الاتحاد الوطني ودعا الى محاربة الفساد، والذي اتهمه خصومه منذ البداية ب (كسر الإجماع الوطني الكردي) وقد حقق تقدما باهرا في آخر انتخابات لبرلمان كردستان 2013 بحصوله على 24 مقعدا متقدما على حزب الاتحاد الكردستاني وحصل على رئاسة البرلمان وفي انتخابات مجلس النواب العراقي الأخيرة تحصل على 14 مقعدا.
اذا كانت جميع الزعامات التي تقاسمت مواقع العداء بينها وبين المالكي لم تحصل على شيء، فان المسعودية (نسبة الى مسعود البارزاني) وهي تجد نفسها تتفرد بالقرار السياس الكردي نتيجة لظروف ومتغيرات قد خدمتها واحسنت استغلالها، فان تلك الزعامة وجدت نفسها في موقع اقوى من بقية الزعامات بسبب موقعها الجغرافي وبحكم الامر الواقع منذ التسعينات مدفوعة برغبة قومية جامحة بتكوين دولة كردية تجعل من الارث التاريخي للعائلة البارزانية تدخل التاريخ من اوسع ابوابه. مما جعل المنافسة شرسة بين المالكية والمسعودية، الاولى لالحاق الاكراد بمنظومة الدولة المركزية والثانية برفض مثل هذا الالحاق.
ترافق ذلك مع ظهور حركة التغيير ومتغيرات مثل داعش (استفاد الاكراد منها في البداية في التمدد الجغرافي الى مناطق اخرى جديدة تم الحاقها بالاقليم) وانخفاض اسعار النفط، ومشاكل اخرى عالقة منذ سنوات بين الاقليم والمركز، مع وعي متزايد لدى الجماهير الكردية بالفساد المالي والاداري الذي يعيشه الاقليم، اضافة الى التظاهرات التي خرجت في اكثر من مكان في العراق، شجع على خروج مثلها في عدد من مناطق كردستان، بدأت بالمطالبة بصرف الرواتب المتأخرة، لتصل الى الدعوة الى رحيل مسعود البرزاني، بعد انتهاء المبررات الدستورية لبقائه حاكما اوحد للإقليم.
اتذكر السيد مسعود البارزاني وهو يقف متحدثا عن الديمقراطية والتبادل السلمي للسلطة، في معرض انتقاداته للسيد نوري المالكي، وكثيرا ما يقرن ذلك بالحديث عن رفض عودة الدكتاتورية الى العراق، واتذكر موقفه من الولاية الثالثة ورفضه التام لها، وها هو الان يتخذ موضعه في الدفاع عن تجديد الثقة به رئيسا للإقليم دون سند دستوري، لكنه يعتمد على سنده التاريخي، الذي يقترب من خانة المقدس، لكنه مقدس قد تم شرخه بواسطة التظاهرات وصيحات المتظاهرين ارحل.
هل يفهم السيد مسعود المتغيرات الجديدة ويرحل وتنتهي برحيله المسعودية مثلما انتهت المالكية من نظامنا السياسي؟.
اضف تعليق