مسألة وقت فقط قبل أن تنضم المضاربات المالية العدائية إلى ترسانة الحرب الهجينة، لتنضاف إلى الهجمات السيبرانية والتضليل الجماعي. وزادت أسعار الفائدة التي خضعت لقدر أكبر من القيود في نسبة احتمالات حدوث اضطرابات في أسواق السندات. إن الظروف مؤاتية لشن هجمات مالية...
بقلم: هارولد جيمس
برلين- نظرا لضرورة اعتبار الاستقرار المالي العالمي منفعة عامة، فإن العديد من المؤسسات الدولية تتفانى في تهيئة الظروف اللازمة لدعم هذا الاستقرار. ومع ذلك، فإن الصراع الجيوسياسي غالبا ما يُحدث تغييرا في طريقة التفكير، فيصبح عدم الاستقرار، فجأة، أداة فعالة لحماية المصالح الخاصة في منافسة عالمية محصلتها صِفر. ويشهد عصرنا الحالي الذي يتسم بالحروب التجارية، وبسلاسل إمداد عابرة للحدود، وبتقييد الوصول إلى التكنولوجيات الرئيسية- لنسمها "السياسة الجيوتقنية" ـ نسخة جديدة من هذه الديناميكية القديمة. وإذا كان لنا أن نسترشد بالتاريخ، فإننا على أبواب حرب مالية.
في القرن العشرين، وقبل اندلاع الحربين العالميتين، شُكلت كتل متنافسة وارتفع عدد الهجمات المالية المحددة الأهداف. ومع تصاعد التوترات الدبلوماسية، حاول كل جانب تقويض قدرات الطرف الآخر عن طريق شن حرب استنزاف مالية. إذن، فإن التعبئة المالية سبقت التعبئة العسكرية في الفترة ما قبل عام 1914.
فعلى سبيل المثال، خلال الأزمة الثانية المتعلقة بالمغرب عام 1911، ردت فرنسا على نشر ألمانيا لزورق حربي في مدينة أغادير الساحلية بتنظيم عملية بيع سريعة للأوراق المالية الألمانية، مما أثار الذعر المالي في ألمانيا. وفي الوقت نفسه، تخلت النمسا والمجر، التي أرادت شرِكاتهما الاستفادة من سوق رأس المال الفرنسي، عن حليفتها الألمانية واصطفت مع باريس. ونتيجة لذلك، ارتابت ألمانيا من حصولها على دعم النمسا، وأصبحت أكثر عزما على خلق المشاكل الاقتصادية التي من شأنها أن تجبر إمبراطورية هابسبورغ على الاصطفاف إلى جانبها مجددا.
وكانت الهجمات المالية خلال الفترة التي سبقت الحرب في عام 1939 واضحة بجلاء . فقد أظهرت أزمة الكساد الأعظم كيف يمكن لحالات الذعر وانهيار البنوك أن تؤدي إلى إضعاف معنويات بلدان بأكملها وتدميرها، وهو ما رآه الخبراء الاستراتيجيين سلاحا متاحا لهم. فنظرا لأن انهيار أسعار السندات أو تدفقات العملة إلى الخارج من شأنه أن يجبر الحكومات على اعتماد سياسة التقشف ضمن الإجراءات المالية المضادة، فإن خلق أزمة مالية كان وسيلة فعالة للحد من إنفاق المنافس على الدفاع (القطاع الذي شكل على الدوام حصة الأسد من الميزانية).
وهكذا، منذ عام 1936، استخدم المخططون الاقتصاديون الألمان مرارا وتكرارا بنك أمستردام لشن هجمات على الفرنك الفرنسي، ونجحوا في نهاية المطاف في تقييد الميزانية العسكرية الفرنسية. وأوقعت هذه التعبئة المالية للحرب فرنسا في الفخ عندما غزت ألمانيا النازية البلاد في عام 1940.
وفي ظل التوترات العالمية المتصاعدة في أعقاب جائحة كوفيد-19 والغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022، من المنطقي أن نشعر بالقلق من انهيار النظام الدولي، ومن كون الأولويات الأخرى حلت محل السعي إلى تحقيق الاستقرار المالي باعتباره منفعة عامة عالمية. فقد بدأت الاستراتيجيات التي كانت تُنتهج سابقا للفوز في لعبة محصلتها صِفر تظهر من جديد، وعادت الحرب المالية بقوة في شكل عقوبات.
وفي الواقع، يبدو أن الأمر مسألة وقت فقط قبل أن تنضم المضاربات المالية العدائية إلى ترسانة الحرب الهجينة، لتنضاف إلى الهجمات السيبرانية والتضليل الجماعي. وزادت أسعار الفائدة التي خضعت لقدر أكبر من القيود في نسبة احتمالات حدوث اضطرابات في أسواق السندات. إن الظروف مؤاتية لشن هجمات مالية.
إن نقاط الضعف واضحة في جميع أنحاء العالم. فقد شجع نظام أسعار الفائدة المنخفضة الذي ساد على مدى الأعوام الخمسة عشر الماضية الطفرات التي شهدها مجال البناء في مختلف أنحاء العالم؛ ولكن كوفيد-19 غيَّر أنماط المعيشة والعمل، مما أدى إلى تحول غير محدد في التوقعات فيما يتعلق بكيفية استخدام المباني والبنية التحتية المرتبطة بها (إذا استُخدمت على الإطلاق). ومع تراجع الوظائف في قطاع الخدمات الإدارية في مراكز المدن الكبرى، أصبحت العقارات التجارية معرضة للخطر بصورة خاصة؛ ونحن نشهد بالفعل الانهيار الهائل الي تتعرض له شركات تطوير عقار الرائدة مثل "إيفرغراند" في الصين، و"سيغنا" في النمسا وأوروبا الوسطى.
وتطال الاضطرابات أسواق الأسهم أيضًا. إذ انخفض مؤشر "مويكس" الروسي بأكثر من 50 في المئة خلال عام بعد أكتوبر/ تشرين الأول 2021؛ ومع أنه بدأ في الارتفاع في أكتوبر/تشرين الأول 2022، إلا أنه يتعثر الآن مرة أخرى.
كذلك، انخفض مؤشر شنغهاي المركب في الصين بنحو الثلث في الفترة الممتدة من سبتمبر/أيلول 2021 إلى نهاية يناير/كانون الثاني 2024. ومنذ ذلك الحين، تتدخل السلطات الصينية عن طريق اتخاذ تدابير على نطاق يتسع على نحو متزايد للحد من المضاربة ووقف الانهيار. ويبدو الوضع في هونغ كونغ- الوسيط المالي الرئيسي بين الصين والعالم- أسوأ من ذلك.
وبوسع المرء أن يفسر إشارات السوق هذه على أنها حكم مالي ضد روسيا والصين. ومع ذلك، يبدو أن الغرب الجيوسياسي على ما يرام: حيث تشهد أسعار مؤشر نيكي الياباني، إلى جانب أسواق الأوراق المالية الأوروبية والأميركية ارتفاعا، ولم تؤد المشاكل العقارية التجارية إلى أي شكل من أشكال الذعر العام. وفضلا على ذلك، تفتخر المؤسسات الغربية على نحو متزايد بقدرتها على ضمان المرونة المالية والاقتصادية.
ومن الصعب أن نفكر في أي أسلوب يمكن أن يستخدمه المنافسون الجيوسياسيون لإحداث انهيار في الغرب عموما. ولم تتخذ أي مؤسسة إجراءات تشبه تلك التي اتخذها بنك أمستردام في ثلاثينيات القرن العشرين والتي تمثلت في إغراق الفرنك الفرنسي خلال هجوم محدد التوقيت يهدف إلى تليين العدو قبل الغزو.
إن الوسيلة المتبقية هي الخطاب. فكما هو الحال مع كثير من الأمور الأخرى، يتأثر التمويل بروايات مركبة يمكن أن تتغير فجأة، مما يؤدي إلى إعادة التقييم بصورة عامة. إن الجزء الأكثر إبهارا ودلالة في المقابلة الغريبة التي أجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتن مع الناقد الأميركي اليميني تاكر كارلسون هذا الشهر، لم يكن حديثه الحماسي عن ألف سنة من التاريخ الروسي؛ بل محاولته الواضحة لإعادة كتابة سرد السوق المالية.
لقد بدأ بوتين أولا بإبداء ملاحظة يقول فيها أن "الدولار هو أساس قوة الولايات المتحدة". ثم رسم سيناريو يقلص فيه العالم اعتماده على الدولار وإلحاق مزيد من الضعف بأمريكا، حيث قال: "لكنهم لن يتوقفوا عن الطباعة. على ماذا يدل الدين البالغة قيمته 33 تريليون دولار؟ لقد حدث بسبب إصدار الأوراق المالية."
ولا يخطئن أحد، فقد كانت هذه دعوة للهجوم على المركز المالي المهيمن لأمريكا. فصحيح أنه من السهل تجاهل تهديد بوتن. فقد سبق له أن هدد أيضا بشن حرب نووية، وسرعان ما تضاءلت قوة استراتيجية حافة الهاوية تلك.
ولكن مع استمرار تزايد نقاط الضعف المالية العالمية، فإن اعتماد الأساليب العدائية في مسرح الحرب الهجين تبدو أكثر منطقية من استخدام الأسلحة النووية. ونحن على يقين من أن منافسي أميركا سوف يعتمدون على نحو متزايد على قوة السرد لاستغلال مكامن الضعف في الأسواق الغربية الكبرى.
اضف تعليق