ان العقلية السلبية والمؤامراتية في التعامل مع الاحداث لن تزيد الامور الا سوءً رغم أنها تشعر الكثيرين بالرضا المزيف عن الذات، فأذا أردنا التطور والفوز فما علينا الا أن نعلم أن الفوز والخسارة، والنجاح والفشل جزء من طبيعة الحياة والرياضة، وأن من يريد الفوز عليه أن يتعلم من أخطاءه ويركز على المستقبل...
لا شك عندي أن معظم العراقيين سيجيبون أنها كانت مؤامرة لاخراج العراق من بطولة آسيا سواء كانت مؤامرة من الحكم الايراني أو الاتحاد الآسيوي أو الجهة المنظِّمة أو سواها. لقد أنتظرت كل هذه المدة قبل كتابة مقالي هذا كي تكون النفوس أهدأ والعقول أبرد. لاعترف أولاً أني متابع متحمس لكرة القدم وأسافر لاصقاع العالم لتشجيع الفرق التي أحبها وفي مقدمتها العراق.
وخلال هذه المتابعة التي أمتدت لأكثر من نصف قرن لم أشهد هذا الاهتمام والانشغال والمشاعر المتفجرة التي شهدتها بعد مباراة العراق والاردن في بطولة آسيا والتي انتهت نهاية درامية صاعقة للشعب العراقي. فبعد أكثر من اربعة أيام لا زال الشارع العراقي مشتعل ويتابع أخبار الحكم الايراني الاصل ويود لو أنه يصحو من هذا الكابوس ليجد المباراة وقد تمت اعادتها أو على الأقل الحكم وقد تم أعدامه معنوياً وإنهائه تحكيمياً جزاءً على الحزن الشديد الذي تسبب به لملايين العراقيين (وأنا منهم).
لكن، بالنسبة لشخص مثلي يؤمن بالعلم ومتخصص بآراء المجتمع العراقي كان لا بد من وقفة موضوعية لتفسير هذه المشاعر الفياضة وهذا الحزن الذي لم ينته، وقد لا ينتهي بالقريب. وقبل تفسير مشاعر العراقيين لا بد من تأشير أنني هنا لا أناقش صحة أو خطأ طرد اللاعب العراقي أيمن حسين فهذا جانب كروي فني تم أشباعه بحثاً وتحليلاً من المختصين.
ما أناقشه هنا هو سر أصرار كثير من العراقيين أن ما حصل هو مؤامرة على العراق وليس خطأ تحكيمي يمكن أن يحدث لأي فريق ليغادر بعدها البطولة. وأن مثل هذه الاخطاء التحكيمية هي جزء من لعبة كرة القدم وقد حصلت وستبقى تحصل لكل من يمارس هذه الرياضة. لماذا هذا الشعور العميق والطاغي بظلم العالم للعراق؟ لماذا يتآمر الجميع على العراق؟ لماذا هذا الشعور العميق بالحزن والذي لا يطبع رياضة العراق فحسب، بل فنه، وأدبه، وثقافته وكل حياته؟ لماذا عُجن أسانا بدمانا، وهمّنا بمائنا، وحزننا بأرضنا؟!
لقد أوضحت في برنامجي الاسبوعي الذي تبثه الشرقية نيوز مساء كل جمعة ان المجتمع العراقي يعاني من حالة فرط تصلب ثقافي تجعل الفرد مسخراً للجماعة (سواء كانت طائفة، أو قومية أو فريق...الخ).فخسارة فرد يمكن أن تكون مقبولة لكن خسارة الجماعة يعني تهديداً لوجودها، وشرفها، ورفعتها، وسمعتها بين الجماعات الاخرى.
لاحظ أن الأغاني التي تم أنشادها للمنتخب كلها تؤكد على أسم العراق وسمعته مرتبطاً بالفريق. كما أن الشعارات وكثير من (الردّات) التي يرددها الجمهور تجعل المباراة أشبه بالدخول لمعركة الدفاع عن الشرف العراقي، أو الرموز الدينية المقدسة. لا بل أن بعض المدربين وكثير من الاعلاميين يشحنون اللاعبين عاطفياً ويزيدون من ضغوطهم نفسياً بأقناعهم أنهم ذاهبين لمعركة وليس لعبة، وأن أربعين مليون عراقي يراقبون (قتالهم) وليس لعبهم!
بالتالي فأن خسارة المباراة تعني خسارة الجماعة والرموز التي تمثلها وانكسار للأمة! أنها ثقافة الجماعة والعصبة والتعصب هي التي تجعل العراقيين لا يتقبلون الخسارة. في نفس السياق ولتعزيز فكرة أن جماعتنا هي الأفضل وبالتالي لا يمكن أن تخسر فلابد من أيجاد سبب خارجي لخسارة الجماعة لا يرتبط بتكوينها أو أنجازها. فالجماعة لا تخسر الا بوجود مؤامرة عليها. هنا تبرز نظرية المؤامرة مرة أخرى.
ان المقصود هنا بنظرية المؤامرة هي الكيفية التي يتم التفكير بها لحل المشاكل والمسائل الغامضة أو المؤلمة. أنها تتعلق بالثقافة الأجتماعية وليس فقط الخصائص الفردية .أنها طريقة تفكير وليس كما يعتقد البعض أنه رفض لفكرة وجود المؤامرة.
فعدم الأيمان بنظرية المؤامرة لا يعني عدم تصديق أن هناك مؤامرات لكنه رفض لطريقة التفكير الغيبي القائم على وجود مجموعة سرية أو قوى خارجية (متآمِرة)هي المسؤولة عن كل ما يحصل للجماعة التي ننتمي لها. بهذا المعنى، تنتشر عقلية نظرية المؤامرة بشكل واسع بين العراقيين.
وقد لاحظنا كيف تم تفسير كثير من الأحداث التي مر بها العراق سواء تاريخياً، أو حالياً بوجود المؤامرة. لقد أُجريت دراسات نفسية - اجتماعية بخصوص الاسباب المرتبطة بالايمان بنظرية المؤامرة. ووُجد أن هناك أسباب فردية وأجتماعية لشيوع هذا التفكير، وسأركز على بعضها فقط.
ترتبط الأسباب (الاجتماعية) بأهمية الانتماء لجماعة ما في ثقافات معينة، وضرورة الاحتفاظ بصورة إيجابية عنها. فكثير من العراقيين يعتقدون أنهم أفضل شعوب الأرض وأغناها، لذا فكل العالم يتآمر عليهم! لا أقصد هنا أن العراقيين غير جيدين لكنهم كجماعة تعاني من فرط التصلب، ويعتقدون أنهم محور الكون. لقد وجد الباحثون أن نظريات المؤامرة تزيد من تقدير الذات والجماعة من خلال السماح بإلقاء اللوم على الآخرين.
وبالتالي، يساعد تفسير المؤامرة في الحفاظ على صورة الذات والجماعة على أنها كفؤة وأخلاقية ولكن تم تخريبها من قبل الآخرين الأقوياء وعديمي الضمير. في تجربة أجريتها على آلاف العراقيين من مختلف شرائح المجتمع وخلفياته عام 2021 ظهر أن 60% من العراقيين يوافقون على أن هناك منظمة سرية تتحكم بمصير العالم وتديره طبقاً لمصالحها! وأكثر من ثلث العراقيين يعتقدون بوجود تعاون بين الدول العظمى وكائنات فضائية للسيطرة على العالم!
كما أثبتت النتائج أن الأقل شعوراً بالأمن هم الأكثر ميلاً لتبني نظرية المؤامرة لأن ذلك يجعلهم يشعرون بالسيطرة على واقعهم وفهمه مما يقلل من قلقهم الأمني. وأوضحت الدراسة أن الأقل تعليماً والأكثر شكاً بالآخرين، والأكثر أستخداماً للأنترنيت يميلون أكثر لتبني نظرية المؤامرة. أن الأزمات الطويلة والمستمرة التي عانى منها العراقيون جعلتهم أكثر قلقاً من الناحية الأمنية، وأكثر شكاً بالآخرين وزادت من نسلة أميتهم التعليمية والثقافية.
وهذا بلاشك يعزز من الشعور بأن هناك مؤامرة حيكت لأخراج المنتخب العراقي من البطولة الآسيوية. ان العقلية السلبية والمؤامراتية في التعامل مع الاحداث لن تزيد الامور الا سوءً رغم أنها تشعر الكثيرين بالرضا (المزيف) عن الذات. فأذا أردنا التطور والفوز فما علينا الا أن نعلم أن الفوز والخسارة، والنجاح والفشل جزء من طبيعة الحياة والرياضة. وأن من يريد الفوز عليه أن يتعلم من أخطاءه ويركز على المستقبل أكثر من البكاء على اللبن المسكوب.
اضف تعليق