q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

إدارة التعقيد

ادارة التعقيد تقتضي سياسة حفظ التوازنات ورعاية الاولويات، التوازنات بطبيعتها لا تعطي هوامش كبيرة للمناورة، انما تعتمد على الخطوات العملية التي تجري على الأرض، فما قد يظنه طرف داخلي انتصارا له قد يراه طرف آخر خسارة وتهديدا، وما تشعر به دولة اقليمية مركزية من نجاح لنفوذها، تفسره دول أخرى مؤثرة تراجعا وخسارة...

تختلف التصورات لدى الفاعلين السياسيين العراقيين حول الاولويات، التي ينبغي التركيز عليها في المرحلة الراهنة. فبسبب قلة الخبرة وضعف التكوين المعرفي، يميل البعض إلى تناسي المخاطر والتهديدات المحيطة بالعراق، ويجنح نحو تبني سياسات راديكالية ظنا منهم ان هذه البرهة الزمنية مناسبة للاستثمار السياسي، فيما يتروى اتجاه اخر من الفاعلين السياسيين ويدعو إلى سياسات حذرة والتركيز على الاولويات الاقتصادية والخدمية لاخراج العراق من حالة الدولة الرخوة (المصطلح والمفهوم يعودان لعالم الاجتماع والخبير التنموي السويدي كارل غونار ميردال 1898 - 1989)،

هذا يتطلب تغيير نمط الانتاج الريعي واعادة بناء الاقتصاد وتوزيع الثروة ليكون ذلك مدخلًا لمزيد من التنمية المجتمعية والسياسية لتحصين البلاد من الصدمات والاضطرابات والهزات الأمنية والسياسية.

لم يجر في العراق نقاشٌ معمقٌ بشأن السبيل الذي يمكن انتهاجه للخروج من حالة التخلف والاضطراب الدائم والنزعة الجدلية والعاطفة السياسية المشبوبة.

اذ يندر أن تجد حزبا سياسيا أو جماعة أو فصيل توفر على قراءة مجدية بمنهج معرفي لتاريخ العراق السياسي والاقتصادي والاثر الكبير للتدخلات الخارجية، وما نتج عنها من استقطابات داخلية اسهمت جميعها في اعاقة بناء الدولة ونموها واستقرارها، ليكون حاصل هذه القراءة رؤية مدونة بأفق علمي ومنهجي تقود إلى التثقيف بسياسات عامة ضرورية، تغادر ماعرف به العراقيون من انفعال سياسي دائم، ومواقف حادة ومجازفات لا ترى ابعد من تخوم اليوم الذي تعيش فيه.

يعاني العراق من تعقيد شديد في بيئته السياسية والأمنية أعجزته عن تلمس طريق للبناء يستثمر فيه موارده البشرية والمادية ليخرج من حالة الهشاشة التي يدور فيها منذ قرن من الزمان، لقد ضاعت فرص كبيرة واهدرت موارد ضخمة، وفي كل مرحلة يختلف العراقيون في تفسير اسباب هذا الضياع المستمر، لكنهم مهما اختلفوا لن يتباعدوا عن الاشتراك في تسمية العامل الرئيس المسؤول عن ذلك وهو غياب النموذج السياسي -الاجتماعي الحاكم الذي يستطيع قيادة مشروع التنمية والنهوض.

ابرز مثال على ما يعيشه العراق من تأثر سريع بالاحداث الخارجية المحيطة به واثرها على بنيته السياسية والامنية، ماتركته حرب غزة من مضاعفات كبيرة، قد يقول القائل ومن لم يتأثر بحرب غزة حتى لا يتأثر العراق!؟، والصحيح انه ما من حدث خارجي ذي طبيعة شاملة (سياسية، عسكرية، اقتصادية) الا ويترك نتائج مباشرة، لكن بدرجات متفاوتة، غير أن الادارة السياسية الذكية والتقديرات السليمة، هي التي تستطيع تقليل النتائج السلبية المباشرة، والحد من التهديدات المباشرة وغير المباشرة وحماية مصالح الدولة-الامة.

يعيش العراق بحكم موقعه الجيوسياسي في بيئة سريعة الاشتعال بسبب ماتختزنه من تعقيد ومشكلات يتداخل فيها التاريخ والاديان والهويات والقوميات ونزعات التطهر الديني وحركات الاحتجاج السياسي-الاجتماعي، وتيارات اليوتوبيا الباحثة عن الفردوس السماوي الزاهدة في الفردوس الارضي.

وكل هذا الخليط الذي تعج به المنطقة انتج قلقا سياسيَّا وأمنيَّا وحروبا داخلية وخارجية، ومهد الارض لمزيد من التدخلات الاجنبية وصراعات غير مباشرة، يخوضها غرماء ووكلاء يظنون أنها معاركهم الخلاصية الأخيرة، غير أن هذه الحروب ما فتئت تنتج حروبا اخرى في دوامة مستمرة وأزمات مستعصية على الحل، العراق مصنف ضمن دائرة البلدان ذات التأثر الشديد بالأحداث الخارجية بسبب ريعية الاقتصاد وتركيبته الاجتماعية والسياسية.

وهذا الصنف من البلدان التي يتحدث عنها ميردال تظل محفوفة بالمخاطر الناجمة من كل فشل في السياسات بما ينعكس على شرعية السلطات ومشروعية المواقف التي تتخذها، وبفعل التشابك بين البيئتين الداخلية والخارجية وارتهان القرار السياسي والامني للعوامل الانفة وتأثر الاقتصاد المتزايد بها، لا مناص للحكومة وفريقها السياسي وخبرائها الاقتصاديين من حساب المخاطر والاحتمالات، والاستعداد الدائم لادارة التعقيد، لتقليل الضرر المتوقع والمحافظة على الاستقرار السياسي والأمني، بغية ضمان نجاح تنفيذ الحكومة لبرنامجها الاقتصادي.

ادارة التعقيد تقتضي سياسة حفظ التوازنات ورعاية الاولويات، التوازنات بطبيعتها لا تعطي هوامش كبيرة للمناورة، انما تعتمد على الخطوات العملية التي تجري على الأرض، فما قد يظنه طرف داخلي انتصارا له قد يراه طرف آخر خسارة وتهديدا، وما تشعر به دولة اقليمية مركزية من نجاح لنفوذها، تفسره دول أخرى مؤثرة تراجعا وخسارة، وكل هذه الدول تندفع للدفاع عن مصالحها وممارسة المزيد من الضغوط، كان قدر العراق السياسي أن يكون متأثرا على الدوام بما يحدث خارجه ايديولوجيا وسياسيا وعسكريا، وهو في موقع رد الفعل ويحاول حماية امنه واستقراره من الاهتزاز.

حدث ذلك اثناء الحرب العالمية الثانية وماانتجه الصراع البريطاني الالماني، ومجيء حكومة رشيد عالي الكيلاني وحركة الضباط الأربعة، ثم جاء انقلاب العسكر في مصر وماتلاه من حرب السويس عام 1956 لتتحرك رياح قومية عاتية انتجت فيما انتجت صراعات دامية مدمرة في العراق لم تتوقف بعد هزيمة العرب في حزيران عام 1967، لينحسر بعدها تدريجيا التيار العروبي القومي بموت عبدالناصر عام 1970 وانكفاء الانظمة السياسية على وطنيات انعزالية داهمها التيار الاسلامي،لقد كانت اصداء حروب فلسطين، تسمع في بغداد ربما أكثر من أي عاصمة عربية حاملة أفكارا، ومحدثة أفعالا ذات تأثير سياسي وأمني كبير، وحرب غزة من الاحداث التي ستطلق جدالات سياسية وحركات على الأرض ذات مفاعيل كبيرة ينبغي الاستعداد لها.

اضف تعليق