q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

الهروب من النور

إن الثقافة ذات الجذور الدينية هي التي تتوفر على ضمانات النجاح في الاستجابة لمختلف حاجات وتطلعات الشعوب دون أن تتعرض للنضوب والجدب والتناقضات فيما تدعو اليه الناس، ليس في الحال الحاضر، وإنما على مر الزمن، لأنها تستقي منن نور ساطع لا يخبو الى يوم القيامة...

يُروى أن أحد فلاسفة اليونان بلغه نبأ ظهور نبي مُرسل من السماء، فجاؤوا اليه يدعوه لرؤيته والاستماع لما عنده من جديد، فقال: "لا حاجة لي به، فقد بلغت ما يكفي من المعرفة ".

وهكذا انطلق الانسان في بواكير وجوده على هذه المعمورة باحثاً عن المعارف والحقائق فيما يخصّ شخصيته، وفلسفة الوجود والحياة، وكيفية التعرّف على الأشياء، وتحديد المعايير المحددة للخطأ والصواب، سالكاً أسهل الطرق وأبسط الاساليب القريبة الى وجدانه وعقله.

كانت النتائج باهرة يوم كان الانسان في ظمئ شديد للعقيدة الصحيحة والايمان بالفكرة المشتملة على أعلى نسبة من الحقيقة، ولذلك نجد أن انسان اليوم يعد ما توصل اليه فلاسفة اليونان قبل قرون عديدة من ميلاد السيد المسيح بمنزلة تراث فكري عظيم، و ربما كانت النهضة الفلسفية في حضارة الاغريق مواكبة زمنياً لظهور الديانات السماوية والانبياء والرسل، ولم تكن متقاربة مكانياً، إذ كانت الحضارة الاغريقية منبثقة من الشواطئ الشمالية للبحر الابيض المتوسط (اليونان حالياً)، بينما ظهر الانبياء والرسُل في منطقة الشرق الأدنى، وتحديداً في شبه الجزيرة العربية وشمالها.

وتمحورت الرسالات السماوية لفتح آفاق العلم والمعرفة أمام الانسان من خلال تمكينه السير على قدمين في هذا الطريق؛ الاولى: تأخذه الى حيث التبصّر بكوامن نفسه، وتجعله يأخذ بزمام الغرائز والنزعات النفسية، والثانية: الى حيث التفكّر بما حوله من ظواهر طبيعية وكونية، و التأمّل في علّة الخلق ومسألة الوجود، والغاية؛ تسهيل الامر على الانسان لاكتشاف الحقائق دون التورط بالتناقضات، أو الوقوع في الأخطاء، وفي القرآن الكريم إشارة واضحة الى هذه المنهجية الرائعة في قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}، وهذا يُعد سبقاً فكرياً عن وجود علاقة ايجابية بين الطبيعة والانسان، وايضاً، عن امكانية استثمار الانسان لهذه الطبيعة، واتخاذها وسيلة للوصول الى الحقائق في الحياة، وما بعد الحياة.

واستناداً الى منطق العقل، كان يفترض الاعتماد على هذه المنهجية السليمة والسهلة للإجابة عن كل تساؤلات البشر، وجعله يعيش الحياة الطيبة، بيد أن محاولات أخرى جرت في اتجاه آخر رأت الافضلية في اعتماد ما لدى الانسان فقط، وتحديداً؛ العقل، فمن خلاله يفكّر، ويجرّب، ويستنتج، بدعوى صعوبة الايمان بما هو خارج الحواس والظواهر المادية، ومن اجل صياغة منهج واضح للحياة، كان لابد من صياغة منظومة ثقافية تحدد المعايير والقوانين لتبيين الصحيح من الخطأ، والحق من الباطل، فطفق مفكروا عصر النهضة في اوربا للبحث عن أسهل المناهج وأقربها الى الذهن البشري لتكون مناهجاً ثابتة في مثلث الحياة المعروف؛ الاجتماع، والاقتصاد، والسياسة، فظهرت النظريات الاجتماعية والنفسية، فيما يتعلق بالانسان الفرد والمجتمع، كما ظهرت نظريات تعالج مشكلة العمال مع أرباب العمل على خلفية تاريخية طويلة من الاستغلال والعبودية، وايضاً؛ ظهرت النظريات السياسية الخاصة بالحكم، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم.

كل هذه النظريات والافكار التي أفادت اصحابها في ظروفهم "الزمكانية"، نرى أنها لم تلتزم في حدود النظرية او المنهج الثقافي، ليتحول الى مذهب ذو طابع ديني –ايديولوجي، فالعلاقة المجحفة والقاسية لرب العمل مع العامل والفلاح في ظل النظام الارستقراطي القديم، دفع بالمنظرين لتأسيس ثقافة داعية الى المساواة وفق النظرية الاشتراكية الداعية الغاء الملكية الخاصة وتكدس الثروة في فرد دون آخر بالمجتمع، و يكون إدارة الاقتصاد بيد الدولة بدلاً من المواطن، وما يستتبع هذا من توطّن النفوس على الوظيفة الحكومية، والراتب الشهري، وانتظار ما تمنحه الحكومة للمواطن من أموال و قطع أراض سكنية، بينما تحولت ثقافة الحرية الفردية وفق النظرية الرأسمالية –الليبرالية، الى مذهب يعطي الحقل لاتباعه بفعل كلما يضمن مصالحهم ويعود عليهم بالمنفعة، ثم ظهرت عقيدة مشتّقة من النظرية الليبرالية تدّعي اسبقية "وجود الانسان على الماهية"، فالانسان هو الذي يصنع قيمه الأخلاقية، ويحدد نمط سلوكه، و لا وجود لثوابت أخلاقية أو دينية منصوص عليها، ولا حاجة للنصيحة والتذكير مطلقاً.

أما كيف تحولت هذه الافكار والنظريات الى مذاهب تشبه المذاهب الدينية، يكفي مراجعة تجارب المنشقين عن الماركسية، ومن سجلوا عليها الاخطاء والمآخذ، ماذا حلّ بهم؟ وكذا المنتقدين للنظرية الرأسمالية ومن فضح ديكتاتورية الاثرياء واصحاب الرساميل ومن يتحكمون في مصائر شعوبهم وشعوب العالم، وكيف يلصقون بهم شتّى التهم، على الأقل لتحجيم وجوده في الساحة، و إبعاده بشتى الطرق عن التأثير على الرأي العام، بما يشبه حكم "المرتدّ" على منظومتهم الثقافية، علماً إن الارتداد في الرؤية الدينية له احكام خاصة ومتشددة قبل إطلاقها.

وهذا يعني أننا أصبحنا فجأة أمام مذاهب فكرية حلت –من حيث يريد اصحابها أم لا يريدون- محل المذاهب الدينية في تحديد أحكام ونظم خاصة، و رؤية معينة لحياة اتباعها، بما يعزز الاعتقاد بوجود "الارتباط الوثيق بين الثقافة والدين، فاذا اردنا نشر ثقافة ما فسوف نواجه صعوبة، إلا اذا كان الداعم لتلك الثقافة دين من الاديان، حتى اذا كانت ثقافة باطلة وديناً باطلاً، فلو اراد اصحاب ثقافة باطلة نشرها سيجدون صعوبة في ذلك، أما اذا كانت مدعومة بدين مزيف فانه يذلل بعض الصعوبات التي تقف في طريقها". (محاضرات ثقافية- السيد جعفر الشيرازي).

تجارب الشعوب والأمم على مر التاريخ وحتى اليوم أثبتت عقم الافكار البشرية في حل أزمات جوهرية مثل؛ الحرية والعدالة مهما تلبست برداء المذهبية و الايدولوجيا، فضلاً عن ان تكون ثقافة تنظم حياة الانسان، حتى التعكّز على الديانة المسيحية في المنظومة الغربية، فقد تعرّض للترنّح والتصدّع بسبب عدم تطابق التعاليم المسيحية الحقّة مع النظريات الحديثة وتطبيقاتها العملية في واقع المجتمعات الغربية، بل لدى العديد من مجتمعات العالم، فثقافة الحب –مثلاً- لم تصنع من الشاب في اوربا و اميركا الشمالية واليابان، انساناً ودوداً مسالماً محباً للآخرين، كما انها لم توفر الأمن للفتاة هناك من السير في الشارع بعد غروب الشمس، وإن كانت ثمة مظاهر انسانية وأخلاقية فهي استجابة لنداء الفطرة، وهنا لا نقصد مطلقاً تعميم الحالة السلبية، إنما المهم الإشارة الى حقيقة أن الرجل الذي يعطف على الفقير أو يتبرع لللاجئين من الدول المأزومة، او يساهم في علاج المرضى، إنما يعده موقفاً انسانياً خاصاً به، ولا يندرج ضمن المنهج التربوي لأسرته وأبنائه.

إن الثقافة ذات الجذور الدينية هي التي تتوفر على ضمانات النجاح في الاستجابة لمختلف حاجات وتطلعات الشعوب دون أن تتعرض للنضوب والجدب والتناقضات فيما تدعو اليه الناس، ليس في الحال الحاضر، وإنما على مر الزمن، لأنها تستقي منن نور ساطع لا يخبو الى يوم القيامة.

اضف تعليق