ان ما يجري من فظائع القتل في غزة اليوم بلا رحمة واقتلاع سكان البلاد الاصليين من الجذور وسحقهم حتى العظم دون التفريق بين طفل او امرأة او دار مسنين او مدرسة او حوض ماء تمارسها آلة الغطرسة العسكرية الاسرائيلية المحتلة وادواتها الحربية الشديدة الفتك ازاء غزة اليوم، هو لا يختلف عن تاريخ الاستيطان الراسمالي ازاء سكان البلاد الأصليين فيما سمي باكتشاف العالم الجديد...
تمهيد: العنف ليس مسجلا في جيناتنا البشرية كما تقول الدراسات العلمية الحديثة بل اتّضح لنا اليوم أن الصورة التي تُظهر الإنسان في عصر ما قبل التاريخ على أنه وحشيّ ومحارب، إنما هي أسطورة مُحاكة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ونشوء النهب الاستعماري لثروات الامم والذي اسس للراسمالية الصناعية ثوابت التراكم فيها. اذ بينت الأبحاث الأثرية أن العنف الجماعي ظهر فعليًّا مع استقرار المجتمعات وتحولها من اقتصاد النهب إلى اقتصاد الإنتاج الراسمالي.
ففي كتابه (دور العنف في التاريخ) يرى الفيلسوف فردريك انجليس (1820- 1895) بان العنف هو مُولد التاريخ، اذ لامس على سبيل المثال تجربة بسمارك في نشأة المانيا الحديثة بكونها تجربة ليست منفصلة عن تطوير وسائل العنف وتطور الاسلحة الحديثة لاخضاع الاخرين، بل جعلت من العنف ووسائله ليست مولدة للتاريخ فحسب بل حفارة قبره كما يذكر انجليس.
فالعنف هو ليس طبيعة بشرية، وليس هناك في الحقيقة ما هو أكثر سطحية من الفكرة التي تقول أن العنف هو غريزة بشرية وأن الإنسان، كالحيوان بالضبط، تحركه غرائزه العدوانية. اذ استندت هذه الفكرة إلى عدد من الأوهام والتلفيقات. فهي تدعي أن التعصب والعنف والاعتداء الجماعي هم صفات وراثية.
اذ يتهم على سبيل المثال، أنصار هذه الفكرة، المدرسة الماركسية بأنها (تنكر الأساس الوراثي البيولوجي لفظائع المجتمع الحديث) وتركز فقط على عوامل ثانوية هي البيئة والظروف الاجتماعية التاريخية.
ان ما يجري من فظائع القتل في غزة اليوم بلا رحمة واقتلاع سكان البلاد الاصليين من الجذور وسحقهم حتى العظم دون التفريق بين طفل او امرأة او دار مسنين او مدرسة او حوض ماء تمارسها آلة الغطرسة العسكرية الاسرائيلية المحتلة وادواتها الحربية الشديدة الفتك ازاء غزة اليوم، هو لا يختلف عن تاريخ الاستيطان الراسمالي ازاء سكان البلاد الأصليين فيما سمي باكتشاف العالم الجديد او الجنوب الافريقي وغيرها من بقاع الارض من عنف غير رحيم في القرون الثلاثة الماضية والذي رافق نشوء الراسمالية الصناعية المركزية.
قد ينتهي العنف المبتكر في غزة الى استحواذ ممنهج على موارد الارض وفرض واقع قمعي جديد من مظاهر الراسمالية والنهب الامبريالي، حيث تخضع غزة اليوم لعملية عنفية تقوم على اساس القتل بالاسلحة الرقمية Digital weapons الشديدة الفتك وهي وسائل تلائم المعطيات التكنولوجية لعسكرة القرن الحادي والعشرين وموارده الاقتصادية (وهي مرحلة مابعد الامبريالية) .
فالجذر التاريخي الاقتصادي للعنف الراسمالي الاسرائيلي المدعم بالاساطير البالية والذي يمارس اليوم على ارض فلسطين هو جزء لايتجزء من منظومة القتل الاستعمارية الاستيطانية التي تسعى نحو تاسيس نظام راسمالي شرق اوسطي لما بعد الامبريالية.
اذ يؤشر التأريخ الاقتصادي للعنف، بان ما يحصل في غزة اليوم من تدمير غير رحيم للاسر الفلسطينية الآمنة هي عملية تلقائية للتوسع الاستيطاني لنهب ثروات غزة وفلسطين في الارض والمياه وهو الشي نفسه الذي حصل في القرون الثلاثة او الاربعة الماضية على بقاع الارض وفي اكثر من قارة.
وعلى الرغم من ذلك، فان تجربة سكان البلاد الاصليين في القارة الامريكية قد لا تختلف في الحصيلة عما تعرض اليه السكان الاصليون تحديداً في الارجنتين وجنوب افريقيا واستراليا. وقد لا يقتل الاستيطان بالضرورة سكان البلاد الاصليين كافة ربما يبقى على شتات منهم، ولكن غلبة الصراع التاريخي بين الطرفين تظهر على الدوام ان سكان البلاد الاصليين لا يملكون سوى دفاعات ضعيفة بسبب الفارق التكنولوجي في ادوات الحرب والقتل، لاسيما بعد ان ينتزع المستوطنون اراضيهم المشاعة، ليقيموا عليها ما يسمى بحقوق الملكية الخاصة التي تؤسس تحت ذريعة قوانينهم الوضعية ونيران اسلحتهم الحديثة نواة الراسمالية المستحدثة في تعظيم عملية التراكم الاولي لراس المال.
فمنذ ان ازيلت الاسس الاقتصادية للمجتمع الاصيل، غدا سكان البلاد الاصليون منزوعي القدرة على منافسة تلك القوى الاوروبية المستوطنة المهاجرة الشديدة التنظيم .
اذ تسلح القادمون الجدد بالقواعد الاقتصادية وآليات السوق والقوانين العسكرية، وقاموا من فورهم بتحويل الارض التي استوطنوها الى استعمالات اقتصادية متعددة غزيرة العائد النقدي وتعاظم الربح.
فالحبوب الاميركية ولحوم العجول الارجنتينية واستخراج الذهب والماس من مناجم جنوب افريقيا، فضلا عن الصوف الاسترالي، قد دخلت جميعها رحاب السوق العالمية وامست مصدر غنى وعيش رغيد لملايين المنتجين والمستهلكين من القوى الاقتصادية المستحدثة لما وراء البحار.
وعلى الرغم من محاولات اقناع سكان البلاد الاصليين ممن سحقتهم آلة احتلال ارضهم وقبولهم بالامر الواقع في التاريخ الاقتصادي للعنف الراسمالي، الا ان ما يجري في غزة اليوم من تدمير عنيف هو بداية منظمة لنهب ثرواتها الطبيعية في الارض والمياه ولاسيما جرفها القاري البحري الغني بالغاز الطبيعي، فهو في محصلته احتلال استيطاني راسمالي مركزي يقوم على تفسير دور العنف في التاريخ الاقتصادي للراسمالية ذلك بإخضاع بقايا سكان البلاد الاصليين للعيش في دواليب الملكية الخاصة وبناء الراسمالية وبادوات من التكنولوجيا الرقمية الحديثة تحيطها ايديولوجيا معبئة باساطير واوهام دينية تعود لمرحلة قد تلامس التاريخ الاقتصادي للاستبداد الشرقي Oriental Despotism .
ختاماً، ان العنف الاسرائيلي في غزة ما هو الا بداية لقيام نظام اقتصادي شرق اوسطي جديد في تراتبية مع بدايات عسكرة الطاقة والثروات الطبيعية في عالم اسمه ما بعد الامبريالية .
اضف تعليق