ما يحاك اليوم للقضية الفلسطينية والمشروع الوطني الفلسطيني أهم وأخطر كثيراً من "دروس التاريخ". فثمة إرادة إسرائيلية–غربية (استعمارية) للانقلاب على نصر السابع من أكتوبر، وثمة سعي لانتزاع مكاسب بالسياسة عجزوا عن انتزاعها في ميادين الحرب والقتال، وتلكم معركة لا تقل خطورة من حرب الصواريخ والقتال من مسافة صفر...
ثمة إجماع دولي، يكاد يتبلور، بشأن ترتيبات ما بعد الحرب على غزة، يتمحور حول "المبادئ الأربعة" التي أعلنت واشنطن وكررتها طوال الأسابيع الثلاثة الأخيرة من الحرب على غزة وفلسطين والمقاومة:
(1) لا احتلال إسرائيلي مستدام، أو لفترة طويلة، للقطاع... (2) لا اقتطاع من مساحة القطاع، تحت أي حجة أو ذريعة... (3) لا تهجير قسري للفلسطينيين إلى خارج القطاع... (4) لا عودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر في القطاع.
قد يجادل كثيرون، وهم محقون فيما يذهبون إليه، في أن واشنطن قد لا تلتزم مبادئها، وأنها قد تكون أول من يخرقها ويتجاوزها، وهذا صحيح، بل صحيح جداً، ولدينا في ذلك شواهد متعددة، لا عبر العودة إلى الماضي البعيد، لكن من مجريات الحرب التي دخلت أسبوعها السابع، بحيث ثبت أن واشنطن و"رسلها" هم أول الذين سعوا لتسويق التهجير وتسويغه، ولولا اصطدامهم بصمود غزة وأهلها أولاً، وبموقف عربي (مصري – أردني) ثانياً، لما انكفأوا عن ترويج هذه البضاعة الفاسدة، ولما بدّلوها بحديث عن "هجرة"، ظاهرها طوعي، وباطنها قسري بامتياز.
في أيّ حال، بدأنا نسمع مواقف أممية (غوتيريش) وأوروبية تكرر الموقف الأميركي ذاته، بعناصره الأربعة، وبالترتيب ذاته، وليس في ذلك ما يدعو إلى الدهشة والاستغراب، فذلك ديدن دول أوروبا بصورة عامة، وبريطانيا بصورة خاصة، ليس في ملفات الشرق الأوسط فحسب، بل في مختلف الملفات العالمية، على الأقل، منذ أن ارتضت القارة العجوز أن تتخلى عن دورها الخاص والمستقل بشأن السياسة الدولية، وأن تقبل دور التابع الذي يلتحق دائماً، من دون إبطاء، بالسيد الأميركي.
لكن اللافت أن الإجماع الدولي على برنامج "النقاط الأربع"، يقابله رفض وتحفظ من طرفي الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وأقصد هنا "إسرائيل" من جهة، والمقاومة من جهة أخرى، ولا أتحدث عن السلطة الفلسطينية وفريق رام الله، الذي يبدو أنه على اتساق وتساوق مع هذه الأطروحات، بل يرى فيها "فرصة" في استعادة "مجد تليد"، ما دام أنه هو بالذات، المرشح الأوفر حظاً، أو هكذا يظن، لوراثة غزة، ما فوقها وما تحتها، بعد أن تضع الحرب أوزارها.
فـ"إسرائيل"، على سبيل المثال، ما زالت تضع التهجير القسري في صدارة أولوياتها، وهي كشفت نيّات إعادة احتلال القطاع إلى أمد مستدام، إن أمكن لها "قذف" أهله وأصحابه إلى خارج حدوده، وهي تخطط جدياً من أجل اقتطاع أجزاء منه، إن تعذر ابتلاعه كله، وجعلها منطقة آمنة (على الطريقة اللحدية في جنوبي لبنان قبل التحرير). وهي تريد لجيشها وأجهزتها الأمنية يداً طليقة في القطاع، تدخله وتخرج منه، متى شاءت وكيفما شاءت، تماماً مثلما تفعل في الضفة الغربية، وتحديداً في رام الله، العاصمة الموقتة.
وفوق هذا وذاك، فإن "إسرائيل" تمانع في إخضاع الضفة (أجزاء منها) والقطاع، لسلطة فلسطينية واحدة، حتى لو كانت سلطة عميلة، ذلك بأن أمراً كهذا قد يُعَدّ "فألاً سيئاً" يُنذر باحتمال ولادة دولة فلسطينية بين النهر والبحر، على نحو يضرب "قانون القومية"، ويطيح السردية الإسرائيلية التي يجري العمل على ترويجها وترجمتها، بتسارع مذهل، ودموية فاشية قلّ نظيرها، في الضفة كما في القطاع.
في المقابل، ما زالت حماس تحتفظ بأوراقها قريبة من صدرها... هي لا تنخرط في السجال بشأن سيناريوهات ما بعد الحرب، لأن الحرب ببساطة لم تضع أوزارها بعد، وأي بحث سابق لأوانه، يليق بمحللين سياسيين ومراكز تفكير وأبحاث، لكنه لا يليق بقيادة منخرطة في إدارة المعركتين السياسية والميدانية. لكنها، مع ذلك، تراقب، بكل اهتمام، كل ما يُطرح من مشاريع وتصورات. وتتقدم بإشارات إلى ما يمكن أن تكون عليه مرحلة ما بعد الحرب، وهذا ما عناه إسماعيل هنية، بصورة خاصة، حين تقدم بنقاطه الأربع في الأسبوع الثالث للحرب: (1) وقف العدوان؛ (2) رفع الحصار وفتح المعابر؛ (3) تبادل شامل للأسرى والمحتجزين؛ (4) مسار سياسي ينتهي بدولة فلسطينية عاصمتها القدس. ولعل البند الرابع من مبادرة هنية/حماس، هو الذي يفتح أفقاً للتفكير فيما بعد الحرب. أما البنود الثلاثة الأولى منها فهي متصلة بالميدان وتطوراته وتداعياته.
واشنطن، كما العواصم التي تُردد أقوالها من بعدها، قالتها بوضوح: إن السلطة الفلسطينية القائمة، لا تبدو قادرة ومؤهلة للاضطلاع بالدور المطلوب في مرحلة ما بعد الحرب. واشنطن تحدثت عن إعادة تأهيل السلطة، وكررت أوروبا من بعدها القول ذاته، وبايدن، شخصياً، تحدث عن "سلطة فلسطينية متجددة"، وأبقى الناطق باسم مجلس أمنه القومي التفاصيل لبحث لاحق، مدّعياً أن الأمر متروك للفلسطينيين وحدهم لتقرير ما الذي يتعين عليهم فعله، لكننا نعرف تمام المعرفة، ولا يساورنا شك فيما نعرف، أن لواشنطن "مواصفات ومقاييس" لن تحيد عنها، وهي تساهم في إعادة تأهيل السلطة وتجديدها.
ولم تتوقف واشنطن عند هذا الحد، وما لم تقله في تصريحات رسمية أفشته في تسريبات إلى صحف ووسائل إعلام أميركية كبرى: الرئيس عباس لم يعد له دور يتخطى "البعد الرمزي/الفخري" في مرحلة ما بعد الحرب، وإنه يتعين نقل سلطاته وصلاحياته إلى حكومة قوية مدعومة من "منظومة إقليمية – دولية" سياسياً، وخصوصاً أمنياً. وفي هذا السياق، تستحضر تجربة جورج بوش الابن وأريئيل شارون، مع ياسر عرفات ومحمود عباس، حين أجبر الأول على تعيين الثاني رئيساً للوزراء مدجَّجاً بالصلاحيات، قبل أن ينجح أبو عمار في تفريغ المشروع الأميركي – الإسرائيلي، من مضمونه، واستعادة دوره، وبقية القصة معروفة، وصولاً إلى اغتيال عرفات بالسم في مكتبه في المقاطعة.
يبدو أن التاريخ يعيد نفسه على صورة مهزلة هذه المرة، لكن بسرعة قياسية؛ عقدين فقط من السنين. اليوم يُراد للرئيس عباس أن "يشرب من الكأس ذاتها" التي أُجبر عرفات على تجرّعها، بتواطؤ من فريق فلسطيني، قاده محمود عباس وآخرون، وبعضهم يتطاير اسمه اليوم، بصفته لاعباً مرشحاً لأدوار كبيرة في المرحلة المقبلة، وأقصد به العقيد محمد دحلان، الذي استعاد حضوره بكثافة في الأسابيع الماضية، بفعل آلة الإعلام المجنَّدة لهذا الغرض، أو تحت جنح الإغاثة الإماراتية الكثيفة.
عند هذه النقطة، يتدخل الأمين العام للأمم المتحدة، فيقترح عودة السلطة إلى قطاع غزة، ضاماً صوته إلى أصوات المؤيدين لـ "النقاط الأميركية الأربع"، لكن بعد فترة انتقالية من بضعة أعوام، ربما سيراً على خطى كوسوفو وتيمور الشرقية.. تأتي بعدها السلطة إلى القطاع، بعد أن يكون تم تأهيلها، لأنها لن تأتي على ظهر دبابة إسرائيلية. لا ندري ما الذي يعنيه غوتيريش بإعادة التأهيل، وما إن كان ذلك يشمل إجراء انتخابات عامة، وإعادة صياغة النظام الفلسطيني، بمشاركة حماس أو على أنقاضها. حتى الأمين العام لديه بضع أوراق ما زالت قريبة من صدره.
ليس هذا هو المهم، ولسنا هنا في صدد استعادة فصول من التاريخ القريب. فما يحاك اليوم للقضية الفلسطينية والمشروع الوطني الفلسطيني أهم وأخطر كثيراً من "دروس التاريخ". فثمة إرادة إسرائيلية – غربية (استعمارية) للانقلاب على نصر السابع من أكتوبر، وثمة سعي لانتزاع مكاسب بالسياسة عجزوا عن انتزاعها في ميادين الحرب والقتال، وتلكم معركة لا تقل خطورة من حرب الصواريخ والقتال من مسافة صفر. لا أحد من الفلسطينيين يجادل في أهمية البنود الثلاثة الأولى من الخطة الأميركية. لا احتلال ولا اقتطاع ولا تهجير. لكن السؤال بشأن هوية السلطة التي يتعين عليها تولي القطاع، هو الذي يتعين أن تنعقد بشأنه النقاشات والحوارات الفلسطينية الداخلية.
حماس قالت إن هذا شأن فلسطيني بحت، يبحث فيه الفلسطينيون وحدهم عبر إرادتهم الحرة ومن دون تدخل خارجي. هنا، وهنا بالذات، يتعين التشديد على أن أي نظام سياسي فلسطيني أو سلطة متجددة أو مُعاد تأهيلها، يجب أن تضم "الكل الفلسطيني"، وفي الأساس حماس والجهاد، لا أن تقوم بمعزل عنهما أو على أنقاضمها كما يشتهي كثر من الفلسطينيين والعرب (الرسميين) وعواصم دولية، دع عنك "إسرائيل". هنا، وهنا بالذات، يتعين عدم السماح بفتح ثغرة الانقسام على اتساعها، حتى لا تصبح ثقباً أسود، يلتهم إنجازات السابع من أكتوبر وتضحيات أهل غزة التي تفوق الخيال، وبطولات المقاومة التي سطرها التاريخ.
هنا، وهنا بالذات، لن يكون مقبولاً، في حال من الأحوال، أن تسقط ثمار ملحمة غزة، في أفواه "فريق التنسيق الأمني"، ولا أن تمهد لعودة طوني بلير (اسمه متداول بكثرة هذه الأيام)، أو الجنرال كيت دايتون، أو من هو على صورته ومثاله. هنا يتعين الإقدام من دون مماطلة أو تلكؤ، على تشكيل إطار قيادي فلسطيني وطني جامع، لإدارة المرحلة المقبلة، وتوفير شبكة أمان للمقاومة والمشروع الوطني، سواء بسواء.
اضف تعليق