كان تركيز ألمانيا على الدبلوماسيَّة والتعدديَّة كأدواتٍ لحلِّ الصراعات وبناء السلام أمراً أساسياً لنجاحها في مرحلة ما بعد الحرب، ويمكن للعراق أنْ يستفيدَ من إعطاء الأولويَّة للجهود الدبلوماسيَّة لحلّ الصراعات الإقليميَّة، والتعامل مع الدول المجاورة، والمشاركة بنشاطٍ في المنظمات الإقليميَّة والدوليَّة...
تبرز ألمانيا، الدولة التي كانت تتمتع بتاريخٍ أمني وعسكري توسعي ومضطرب في القرن العشرين، حالياً كقوة أوروبيَّة رائدة تعطي الأولويَّة للسلام والدبلوماسيَّة والتعاون الدولي، وإن رحلتها من دمار الحرب العالميَّة الثانية إلى دولة مستقرة ومزدهرة تحمل دروساً قيّمة للعراق، والذي نراه يتصارعُ مع تحدياته الأمنيَّة الخاصة، وإن التطور الأمني والعسكري الذي حققته ألمانيا يسهمُ في رفد خطة العراق لبناء دولة ديمقراطيَّة مستقرة تحمي سيادته وتعزز الاستقرار الإقليمي.
إنَّ الأمة ذات التاريخ المضطرب الذي تميز بحربين عالميتين، والانقسام إلى غربٍ وشرقٍ، خلال الحرب الباردة، تمكنت من تحويل نفسها إلى أنموذجٍ للاستقرار والسلام والقوة العسكريَّة المسؤولة، واتسمَ تطورها الأمني والعسكري على مدى العقود الماضية بالالتزام بالديمقراطيَّة والتعدديَّة والحلول الدبلوماسيَّة للصراعات، وتقدم هذه الرحلة رؤى قيّمة بشأن كيفيَّة تطور الأمَّة من تاريخ النزعة العسكريَّة لتصبح جهة فاعلة عالميَّة مسؤولة.
تاريخٌ من المرونة والمسؤوليَّة
مرَّ تاريخ ألمانيا بمحطاتٍ عديدة، حربين عالميتين، وتقسيم الأمة خلال الحرب الباردة، والالتزام بضمان عدم تكرار مثل هذه الصراعات مرَّة أخرى، وبعد الحرب العالميَّة الثانية، جُردت ألمانيا من السلاح، مع التركيز على إعادة بناء البِنْية التحتيَّة وتعزيز المجتمع الديمقراطي، وبقي هذا الالتزام الألماني بالسلام والديمقراطيَّة في قلب سياساتها الأمنيَّة، وما تقدم ذكره يقتضي النظر إلى كل مرحلة وتطوراتها:
أولاً- الالتزام بالسلام بعد الحرب:
تركت آثار الحرب العالميَّة الثانية ألمانيا في حالة خراب، وأدت إلى نشوء تأملٍ وطنيٍ عميق، قدمت ألمانيا التزاماً جماعياً بضمان عدم تكرار مثل هذه المآسي مرَّة أخرى، وشكَّلَ هذا الالتزام حجرَ الأساس لتطورها الأمني والعسكري وترجم من خلال:
1 - نزع السلاح والسيطرة المدنيَّة:
تميزت سنوات ما بعد الحرب المباشرة في ألمانيا بنزع السلاح وتفكيك جيشها، وقد تبنت مبدأ السيطرة المدنيَّة على المؤسسة العسكريَّة، وضمان أنَّ القوات المسلحة سوف تخدمُ مصالح الدولة تحت إشرافٍ ديمقراطي.
2 - التكامل الأوروبي:
أدركت ألمانيا أنَّ السلامَ الدائمَ في أوروبا يتطلبُ نهجاً جديداً، وعليه لعبت دوراً محورياً في إنشاء المجموعة الأوروبيَّة للفحم والصلب (ECSC)، التي كانت بمثابة مقدمة للاتحاد الأوروبي، ومن خلال دمج اقتصادها وسياستها مع جيرانها، سعت ألمانيا إلى ربط نفسها بأوروبا ومنع عودة النزعة القوميَّة.
3 - الدبلوماسيَّة والتعدديَّة:
أعطت ألمانيا الأولويَّة للدبلوماسيَّة والتعدديَّة كأدواتٍ أساسيَّة لحل النزاعات وبناء السلام.
وأصبحت لاعباً رئيساً في المنظمات الدوليَّة، بما في ذلك الأمم المتحدة، وشاركت بنشاطٍ في الجهود الدبلوماسيَّة لمواجهة التحديات العالميَّة.
ثانياً- الحرب الباردة والانقسام
خلال الحرب الباردة، وجدت ألمانيا نفسها منقسمة إلى شرق وغرب، حيث كانت ألمانيا الغربيَّة (جمهوريَّة ألمانيا الاتحاديَّة) متحالفة مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) وكانت ألمانيا الشرقيَّة (جمهوريَّة ألمانيا الديمقراطيَّة) تحت النفوذ السوفيتي، وشكلت هذه المرحلة نهج ألمانيا تجاه الأمن من خلال:
1 - عضويَّة حلف شمال الأطلسي:
انضمت ألمانيا الغربيَّة إلى حلف شمال الأطلسي في العام 1955، لتصبح جزءاً حيوياً من استراتيجيَّة الردع التي ينتهجها الحلف ضد الاتحاد السوفييتي السابق، ودُمجت المؤسسة العسكريَّة الألمانيَّة في هيكل قيادة حلف شمال الأطلسي، الأمر الذي عزز التزامها بالدفاع الجماعي.
2 - المرونة الاقتصاديَّة:
أظهرت “المعجزة” الاقتصاديَّة التي حققتها ألمانيا الغربيَّة في مرحلة ما بعد الحرب العلاقة بين القوة الاقتصاديَّة والأمن القومي، ووفر الاقتصاد المزدهر الأساسَ لاستقرار ألمانيا وأمنها.
ثالثاً- إعادة توحيد ألمانيا (ألمانيا الموحدة):
كان سقوط جدار برلين في العام 1989 ثم إعادة توحيد ألمانيا الشرقيَّة والغربيَّة في العام 1990 بمثابة لحظة محوريَّة في تاريخ البلاد، وشهد التطور الأمني والعسكري في ألمانيا تغييرات كبيرة
منها:
1 - تكامل ألمانيا الشرقيَّة:
قام الجيش الألماني (القوات المسلحة الألمانيَّة) بدمج الوحدات العسكريَّة الألمانيَّة الشرقيَّة السابقة، ولم تكن هذه العمليَّة خالية من التحديات، لكنَّها عززت التزام ألمانيا بالديمقراطيَّة والسيطرة المدنيَّة على الجيش.
2 - التركيز على إدارة الأزمات:
مع نهاية الحرب الباردة، حولت ألمانيا تركيزها العسكري من الدفاع الإقليمي إلى إدارة الأزمات، وحفظ السلام، والبعثات الإنسانيَّة، وأصبحت مساهماً مهماً في جهود حفظ السلام الدوليَّة.
رابعاً- جيش حديث لمواجهة التحديات المعاصرة:
واصلت ألمانيا في السنوات الأخيرة تطوير قدراتها العسكريَّة لمواجهة التحديات الأمنيَّة المعاصرة من خلال:
1 - جهود التحديث:
استثمرت ألمانيا في تحديث وتطوير قواتها المسلحة، مع التركيز على المعدات والتكنولوجيا والقدرات السيبرانيَّة المتقدمة لتعزيز جاهزيتها وقدرتها على التكيف.
2 - المشاركة الدوليَّة:
تشارك ألمانيا بنشاطٍ ضمن المهمات الدوليَّة والبعثات العسكريَّة الأمميَّة لحفظ السلام، وتسهمُ في العمليات التي يقودها حلف شمال الأطلسي، وقد شارك أفرادها العسكريون في مهام امتدت من أفغانستان إلى مالي.
ومن المفيد أنْ نذكر أنَّ الحكومة الالمانيَّة كان لها موقفٌ معارضٌ من التدخل العسكري في العراق في العام 2003 لعدم “شرعيته” بحسب رؤيتها، إلا أنَّ الموقف الألماني بعد الحرب كان موحداً مع الموقف الأوروبي العام الهادف لإعادة إعمار العراق واستقراره ودعم المنظمات الدوليَّة والإنسانيَّة العاملة فيه.
3 - يشارك الجيش الألماني في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريــا منذ العام 2015 بقواتٍ لا يتجاوز قوامها الـــ(500) جندي، علماً بأنَّ المهمة ألغيت في سوريا في العام 2022.
وتشمل مهمة الجيش الألماني تقديم الدعم اللوجستي لقوات التحالف الدولي والناتو، والاستشارة لقوات الجيش العراقي والبيشمركة، تطويراً للقدرات وفي حربهم ضد تنظيم داعش الإرهابي.
ومن المهم ملاحظة أنَّ العقيدة العسكريَّة الألمانيَّة تطورت استجابة للدروس المستفادة من الصراعات التاريخيَّة، والتغيرات في ديناميكيات الأمن الدولي، والتزامها بالقيم الديمقراطيَّة والسيطرة المدنيَّة، وقد تباينت العقيدة والتركيز المحدد بمرور الوقت، الأمر الذي يعكسُ الاحتياجات الأمنيَّة للبلاد ودورها في المجتمع الدولي.
الدروس الأساسيَّة للعراق
هناك دروسٌ كثيرة يمكن للعراق أنْ يستخلصها من النموذج الألماني، منها:
1 - الاستثمار في الدبلوماسيَّة والتعدديَّة:
كان تركيز ألمانيا على الدبلوماسيَّة والتعدديَّة كأدواتٍ لحلِّ الصراعات وبناء السلام أمراً أساسياً لنجاحها في مرحلة ما بعد الحرب، ويمكن للعراق أنْ يستفيدَ من إعطاء الأولويَّة للجهود الدبلوماسيَّة لحلّ الصراعات الإقليميَّة، والتعامل مع الدول المجاورة، والمشاركة بنشاطٍ في المنظمات الإقليميَّة والدوليَّة.
2 - المحافظة على السيطرة المدنيَّة على المؤسسة العسكريَّة:
إنَّ التزام ألمانيا بالسيطرة المدنيَّة على المؤسسة العسكريَّة يضمن أنْ تخدمَ القوات المسلحة مصالح الدولة بدلاً من ملاحقة أجندات سياسيَّة مستقلة.
ويستطيع العراق أنْ يعززَ ديمقراطيته من خلال التمسك بهذا المبدأ، الذي يشكلُ ضرورة أساسيَّة للحفاظ على الاستقرار السياسي، ومنع التدخل العسكري في الشؤون المدنيَّة.
3 - تعزيز التعاون الإقليمي:
تشارك ألمانيا بنشاطٍ في التعاون الإقليمي، وخاصة داخل الاتحاد الأوروبي.
وبوسع العراق أنْ يتعلمَ من هذا من خلال تعزيز علاقات التعاون مع جيرانه والمنظمات الإقليميَّة لمعالجة المشاغل الأمنيَّة المشتركة، وتعزيز الاستقرار في الشرق الأوسط.
4 - إعطاء الأولويَّة لحقوق الإنسان والديمقراطيَّة:
أدى تركيز ألمانيا القوي على حقوق الإنسان والديمقراطيَّة إلى تعزيز سمعتها كلاعبٍ عالميٍ مسؤول.
يستطيع العراق تعزيز مكانته الدوليَّة واستقراره الداخلي من خلال إعطاء ضمانات تنفيذيَّة في حماية وتعزيز حقوق الإنسان، وإنشاء المؤسسات الديمقراطيَّة، والالتزام بسيادة القانون.
5 - الاستقرار الاقتصادي من أجل الأمن:
لعبت القوة الاقتصاديَّة لألمانيا دوراً مهماً في أمنها، ويستطيع العراق تحسين وضعه الأمني من خلال السعي إلى التنويع الاقتصادي، وتقليل الاعتماد على النفط، والاستثمار في التعليم والبِنْية التحتيَّة لإنشاء أساسٍ اقتصادي مستقر.
6 - الاعتراف بالأخطاء التأريخيَّة والتعلم من دروسها:
لقد أسهمَ اعتراف ألمانيا بأخطائها التاريخيَّة أثناء الحرب العالميَّة الثانية في تحقيق المصالحة مع جيرانها، ويمكن للعراق أنْ يتعلمَ من ذلك من خلال معالجة قضاياه التاريخيَّة، وتعزيز المصالحة الداخليَّة بين مختلف المجتمعات، والعمل على تحقيق الوحدة الوطنيَّة.
7 - الاستراتيجيَّة العسكريَّة التكيفيَّة:
إنَّ تحول ألمانيا من الموقف الدفاعي في المقام الأول خلال الحرب الباردة إلى استراتيجيَّة عسكريَّة أكثر مرونة وقدرة على التكيف بعد الحرب الباردة يدلُّ على أهميَّة مواءمة القدرات العسكريَّة مع التحديات الأمنيَّة الحاليَّة، ويستطيع العراق تقييم احتياجاته العسكريَّة وتحديث قواته وفقاً لذلك.
خاتمة
لقد أثّر موقع ألمانيا الجيوسياسي كدولة في أوروبا الوسطى في تطوراتها التاريخيَّة، وفي علاقاتها مع الدول المجاورة، وفرصها الاقتصاديَّة، ونهجها في الأمن والدبلوماسيَّة، وقد استفادت من موقعها المركزي وواجهت تحدياتٍ مرتبطة بموقعها على مفترق طرق الجغرافيا السياسيَّة الأوروبيَّة.
إنَّ التطور الأمني والعسكري الذي حققته ألمانيا يقدم للعراق دروساً قيمة في بناء دولة مسالمة وديمقراطيَّة وآمنة، وقويَّة في الوقت ذاته.
ومن خلال إعطاء الأولويَّة للدبلوماسيَّة، والسيطرة المدنيَّة على المؤسسة العسكريَّة، والتعاون الإقليمي، وحقوق الإنسان، والاستقرار الاقتصادي، والمصالحة التاريخيَّة، والاستراتيجيَّة العسكريَّة القابلة للتكيف، يستطيع العراق أنْ يمهدَ الطريقَ نحو مستقبلٍ مستقرٍ، وإنَّ تبني هذه المبادئ لن يحمي سيادة العراق فحسب، بل سيسهمُ أيضاً في الاستقرار والأمن الإقليميين في الشرق الأوسط.
يُظهر التطور الأمني والعسكري في ألمانيا قدرة الأمة على التعلم من ماضيها، وتحويل نفسها، والمساهمة في السلام والاستقرار العالميين، وإن التزامها بالسيطرة المدنيَّة والديمقراطيَّة والدبلوماسيَّة والقوة العسكريَّة المسؤولة يقدم قيمة للدول في جميع أنحاء العالم.
وتسلط قصة ألمانيا الضوء على فكرة مفادها أنَّ أي دولة، بصرف النظر عن إسقاطاتها التاريخيَّة، من الممكن بفترة قصيرة أنْ تصبحَ منارة للمرونة، والمسؤوليَّة، والسلام على الساحة العالميَّة.
اضف تعليق