الاوّل؛ هو التّعميم، فعندما يجري الحديث عن محاربة الفساد، مثلاً، فانّ العراق يخلو من النّزيه بالمطلق، وعندما يجري الحديث عن حَمَلَةِ الشّهادات المزوّرة فانّ البلاد تخلو من اي حاملِ شهادة، وعندما يجري الحديث عن الفشل، فكل العراقيين فاشلين، وهكذا.

ان التعميم، ظُلمٌ كبيرٌ للمجتمع، كما انّه ظُلمٌ لكلِّ فرد على حدة، وهو طريقةٌ من طرق بخس الناس أشياءهم، كما انها وسيلةٌ سهلةٌ جداً من وسائل الهروب من المسؤولية.

انه يصيب المجتمع باليأس والاحباط ما يدفعه دفعاً للفشل، وكلُّ هذا لا يخدمنا ابداً، ولذلك لا يلجأ اليه عاقلٌ حريصٌ على سمعةِ بلده ومستقبل الأجيال.

من الضّروري جداً ان نرسم الحدود عند الحديث عن ايّ امرٍ من الامور، لنتجنّب [الافراط والتفريط] كما ينبغي علينا ان نتحدّث دائماً عن الجانبين او الوجهين في كلّ قضية من القضايا المطروحة للنقاش والمعالجة، فالتّشخيص الدّقيق للمرض يُساعدنا على تشخيص الدّواء بشكلٍ دقيق، الامر الذي يحتاج الى الفرز في الامور بعيداً عن التّعميم.

الثاني؛ إستثناء الذّات، فترى الواحدُ منّا يحمّل الجميع مسؤولية الامور، ان كانت على الصّعيد الخاص، العائلة مثلاً او العمل او ما أشبه، او على الصّعيد العام، في المدرسة مثلاً او في السّياسة والمجتمع، ولكنك لم تسمع منه حتّى كلمةً واحدةً وهو يحدّثك عن مسؤوليته إزاء ايّ امر من الامور.

وانّ أغرب ما في الامر هو عندما يتحدّث السياسيون والمسؤولون عن قضايا الدّولة والعمليّة السّياسية، وعن الفشل الذي تعاني منه الآن، والمشاكل العويصة التي تمرّ بها البلاد، وعن الارهاب الذي لازال يغتصب مناطق شاسعة من العراق، وعن الفساد المالي والاداري الذي ينخر بمختلف مسؤوليات الدّولة، فلم تسمع منهم ابداً حديث عن المسؤولية الذّاتية إزاء كلّ هذا ابداً، انما تسمع منهم تنظيراً وفلسفةً عن دور زيد وعمرو في كلّ الذي يجري، أمّا هو فقد شخّص مبكراً وحذّر فيما سبق ونبّه منذ البداية وقال سابقاً!.

وانّ من الامور المُضحكة التي بدأت اكتشفها هذه الايام، هي انّهم كانوا يُسلّمون رواتبهم الخُرافية التي ظلّوا يستلمونها منذ التغيير والى الامس القريب، الى الفقراء والمحتاجين والمستضعفين! وأنّهم لم يأخذوا منها فلساً واحداً، وهي محاولة منهم، طبعاً، لتبرير مشاركتهم المباشرة في الفساد المالي الكبير الذي اصيبت به الدّولة!.

طيب، فاذا لم يكونوا فاسدين وأنهم كانوا يسلّمون رواتبهم الضخمة الى الفقراء، فمن اين لهم كلّ هذه الأموال والأملاك اذن؟ ومِن أين كانوا يصرفون الملايين على حملاتهم الانتخابية؟! علماً بأنّ جُلّهم كانوا شحّاذين في دول المهجر!.

كم انتم سيّئون ودجّالون أيّها السّاسة الّلصوص الفاسدون والفاشلون، وصدق من قال [اذا لَمْ تستحِ فقُل ما شِئت] خاصة وان الكلام اليوم ليس عليه ضريبة، كما يقولون!.

الثّالث؛ سيطرة المخاوف على عقولنا وتفكيرنا ومشاعرنا وخططنا وحواراتنا من دون السّعي للمساهمة في الحل، وهي ظاهرة لم أجدها انا شخصياً عند أيّة نُخبةٍ أخرى.

ففي العراق، فان النُّخب تتحدّث عن مخاوف تحيط بالعملية السياسية، وعن مخاوف تتربّص بمستقبلها، وعن مخاوف تحوم حول التّظاهرات ومشروع الاصلاح الحكومي، وعن مخاوف تُحيط بمستقبلِ العراق ووحدتهِ، وعن مخاوف من نجاح خطط الاستكبار العالمي والصهيونية العالمية ونظام القبيلة الفاسد الحاكم في الجزيرة العربية وبقية دول الخليج بالاضافة الى الرجعية العربية في تقسيم العراق وتقطيع أوصاله وتجنيد قوى داخليّة مشبوهة لتدمير البلد!.

انهم مستغرقون في توصيف المخاوف، وكأنهم يقدّمون لنا اكتشافاً تاريخياً او علمياً جديداً!.

قد يكون هذا النّوع من الكلام مقبولاً من المواطن العادي الذي يعيش يومهُ، امّا النُّخب والمفكّرين والمهتمّين بالشأن العام والمتصدّين للتّخطيط والتّفكير ورسم الاستراتيجيات، فمن العيب ان نسمع منهم هذا النّوع من الكلام، لانّ دورها ومسؤوليتها ليس التّوصيف، توصيف المشكلة والمخاوف، وانّما يتجلّى دورها ومسؤوليتها في رسم معالم طريق التحدي لكلّ هذه التّوصيفات، ولذلك فعندما يُخبرني أحدهم بانّهُ متخوّف من ان يستغلّ المتربّصون التّظاهرات، فهو لم يقل لي شيئاً جديداً ابداً، كما انه سوف لن يزيدني شيئاً، فكلّنا نعرف ذلك، امّا اذا اخبرني بخطّته لقطعِ الطّريق على المتربّصين للحيلولة دون استغلال التّظاهرات فذلك هو الشّيء الجديد والمهم الذي يجب ان يقوله وَعليَّ ان أسمعَهُ.

وهكذا في كلّ القضايا المطروحة!.

بالتوصيف نسيرُ خلفَ الحدث، امّا بالتّخطيط فسنقودهُ بعدَ ان نصنعهُ.

للأسف الشّديد فإنّنا مستغرِقون في التّوصيف بشكلٍ مخيف ومُقرف، فجلّ مقالاتنا وأحاديثنا ومجموعات وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها تحمل إلينا في اللحظة الواحدة، ربما، كمٌّ هائل من التّوصيفات المرعبة، لننشغل بها ليل نهار من دون ان تحمل لنا حتى رسالة واحدة مقترحاً او حلاً لتحدّي هذه المخاوف.

بالتّوصيف يُشغِلنا عدوّنا ليغزونا في عُقر دورنا، والنّتيجة الحتميّة هي الهزيمة فالذّل، على حدِّ وصف أمير المؤمنين عليه السلام، اما في التخطيط فنُشغِل العدو لنغزوه في عُقر داره.

وهذا هو الفرق بين الناجح والفاشل، فالأول يشخّص المرض ويقدّم العلاج، يُحدد المخاوف ويسعى لرسم خارطة طريق للتّحدي، يكتفي الثّاني بتوصيف المرض والمخاطر والمخاوف، من دون ان يُبادر لشيءٍ ابداً!.

يجب ان نتذكّر دائماً بأنّ الحياة عبارة عن صراع الإرادات وتحدي الإرادات، فاذا كان الخصم او العدو يفكّر بمصالحهِ ويخطط من أجل حمايتها وبكلّ الطّرق، فليس من واجبك ابداً ان تصف لنا ما يفعله وما يخطط له وينوي تحقيقهُ، فذلك شغلهُ وهو أعرفُ به، امّا شُغلك فهو التّخطيط كذلك لحماية مصالحك، انت كفردٍ وكمجتمعٍ وكدولةً.

والحياةُ لا تحمي المغفّلين ابداً، والتاريخُ لا يرحم ابداً، وصدق امير المؤمنين (ع) الذي قال {وَمَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عنْهُ}.

لو تنتبهون الى ما تمّ تناقلهُ منذ انطلاق التّظاهرات في العراق، فلقد انصبّ جلّه على توصيف المخاطر، من دون ان يفكّر احدٌ في كيفيّة حمايتها من هذه المخاطر؟ وكيف يمكن ان تحقق النتائج المرجوة؟ وما هي الأساليب النّاجعة لديمومتها لحين تحقيق أهدافها في الاصلاح والانتصار في الحرب على الفساد؟!.

ذات الامر يتعلّق بكلّ قضيّةٍ من القضايا التي يمرّ بها العراق اليوم!.

وهنا تكمن المشكلة العويصة.

تعالوا بدلاً من ان نستغرق في توصيف المخاطر، وهو جهدُ العاجز، ننشغل في رسم خرائط الطّريق للتّحدي من اجل إنجاز النجاح وتجاوز الفشل، وهو جهد القوي الواثق والُمثابر.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق