لقد تغيرت الدنيا، وتقلب أحوالها، وتطور بشرها بالرقمنة، ما عاد مواطن السيلكون يُخفيه سكين الديكتاتور ومفرقعاته، فهو يمتلك تكنولوجيا العيش الحر، وتمتلئ رئته بأوكسجين الديمقراطية، وحلمه يكبر مع الأيام، وعقله غير مضطرب بهلوسات الديكتاتور، لا دخان بدون نار من فواجع الدول؛ الديكتاتور هو صانع الأزمات والكوارث. نقطة رأس السطر...
ما حدث في روسيا خلال الأيام القليلة الماضية، كان سيحدث عاجلًا أو آجلًا في قادم الأيام. وما كان يحدث ما حدث، لو أن اليقظة السياسية كانت مشتعلةً بقوانين الديمقراطية، وغير مبنيَّة على وهم القوة، وداء العظمة، والعيش على حلم الإمبراطوريات، والتمتع بمناظر قصر كرملين ومارينسكي وكائرين وبافلوفسك، وحلم الإمبراطوريات والقياصرة، والاتحاد السوفيتي، والثورة البلشفية، وروشتات صناعة الديكتاتورية.
كل هذا التيه ما كان يحدث في روسيا، لولا البرودُ الروسي في التعامل مع الواقع بألوانه المختلفة، وبالذات مع (بريغوجين)؛ طباخ (النقانق) الروسية الذي صار اسمه يعلو على الجميع، ويتحرك بعنجهية، مُتحديًا الرئيس بوتين والمؤسسةَ العسكرية. وما كان يجرأ هذا (المتمرد) أن يخترق الأمن الروسي وقبضته الحديدية، لولا قناعته بأن النظام السياسي يغط في سبات عميق، وهناك من يسانده سراً في البيت الروسي!
لا شيء يُثير الدهشة إلا هذا الفيلم القصير لفاغنر الذي حدث بسرعة ثم ما لبث أن انتهى بسرعة. مثلما هناك في التاريخ قصصٌ تحكي لنا أن: الجميع قد سقط بفعل ثغرة بسيطة، من حيث يحتسب أو لا يحتسب؛ فلقد سقطت إمبراطوريات، وأُبيدت فيالق من الجيوش، ودُمِّرت مدنٌ بأكملها عن بكرة أبيها.
فما حدَث من تمرُّدٍ من قِبَل (بريغوجين) قائد مليشيات فاغنر، كأنه ترجمةٌ لفيلم أو تفسيرٌ لحُلم، أو لعبة كلمات متقاطعة لفك ألغاز وهمِ الفوز، وهي تعكس ترسُّبات الأرض بالمواد الصلبة المتراكمة بمعادن السياسة، وتبلُّدِ العقل. أخطأ بوتين في حساباته في (اللعب على الحبال)، عندما صنع قوتين متنافستين، معتقدًا بأنها لعبة تُحقق مصالحه، وتُنقذه من طموحات العسكريين وتجار الحروب!
في واقع الأمر، إن ما يثير المشهد الغامض هو رماديته، وطريقة إخراجه، ونهايته المدهشة. وأتمنى أن أكون مُخطئًا في وصفي للتمرد على شاكلته: نام (بريغوجين) بعد أن شرب قنينة من (الفودكا الروسية)، وجاءه الشيطان الغربي ليستفز طموحاته ويُوقظ أحلامه بالجلوس على الكرسي الروسي؛ فاستيقظ صباحًا على (هوس التمرُّد) وعلى صوت العالم الذي يُغرد له. فأضاع (الصاية والصرماية) بطموحاته المريضة!
بوتين، “الثعلب”، أو” الدب الروسي” كما يلقبونه، استفاق من الطعنة التي تلقَّاها في ظهره من رفيقه (بريغوجين)؛ فالطعنة التي تأتي من الداخل تكون أشدَّ ألمًا من طعنة العدو ذاته. وما جرى هو تقدير خاطئ للموقف من الدب المنغمس في حلم الإمبراطوريات، والشعور بعظمة وهم الأمن، والتفاف الشعب حوله. مثلما كان “طباخ الرئيس” بليدًا في نرجسيته المريضة، وفاشلًا في تقدير الموقف، ومدفوعًا من الشياطين الذين رأوا فيه مدخلًا لإحداث التصدعات في الجدار الروسي، وإثاره الفوضى وزعزعة الاستقرار.
بالطبع هناك اعتقادٌ شعبي بأن الحرب ستأتي بالويلات والكوارث، ولن تنتهيَ فصولها إلا بانتهاء كل شيء في روسيا. لا يزال اليأس يأخذ مداه في النفوس الروسية؛ فإطالة الحرب تعصف بالخيال الشعبي، وتُدمر ثقته بالجيش والنظام، خاصة وأن التوقعات كانت تقول: إن الجيش سيُنهي الحرب خلال أيام معدودات. أضف إلى ذلك، ما يجري من مقارنات بين الجيش الروسي وقوات (فاغنر) في حرب أوكرانيا؛ حيث تفوُّقُ المليشيات على جيش النظام الرسمي في حروبه، وانتصاراته. وربما كانت هذه هي (الثغرة النفسية) التي استغلتها أمريكا والغرب للَّعب بها، والتأسيس لها والبناء عليها؛ لإضعاف جبهة الحرب والحياة.
مازال الأمر مبهماً حول سرعدم استخدام القوة المُفرطة من قِبَل الجيش في التعامل مع تمرُّد (فاغنر) المسلح، وسر هذا التخوُّف من مجموعة مسلحة لا يتعدى عناصرها 25 ألف مقاتل؛ مما يثير التساؤلات حول ما إذا كان الأمر مفتَعلًا بالخداع أم حقيقيًّا، لكن الأغرب في هذه الدراما أن يخرج المتمرد سالمًا بسيارته إلى بيلا روسيا، وليس إلى القبر!
إن ما حدث من تمرُّد قد يكون عاملًا فاعلًا في يقظة بوتين لإدارة التحديات التي يواجهها مستقبلًا، وهي كثيرة برأيي، وستأخذ مداها الأخطر إذا لم يستعجل في إجراء التغييرات في مؤسسة العسكر والحكم؛ لأن الآخَر له فرصة تاريخية لفك شفرات النظام الروسي، وتفسيخ منظومته المُعادية لنظام القطب الواحد؛ فالحرب الفاشلة في النهاية قد تؤدي إلى اضطرابات سياسية في روسيا، وإلى قيادة سياسية جديدة مناصرة لها.
قول الحق؛ أن ما حدث في روسيا هذا العام من تعثر في حربها مع أوكرانيا، وتمرد (فاغنر)، وحادثة تعرض قباب قصور الكرملين لهجمات بالطيران المسيّر، هو خيبة وإهانة لسمعتها كدولة عظمى، وتشويه لسمعة القيصر. ما يحدث هو مسلسل مدروس لتدمير الدولة وتفتيت قوتها، وتشويه صورتها وكيانها السياسي بهدف شل قدراتها العسكرية والبشرية، وأيقاظ اليأس في النفوس.
القصة الروسية لم تنته فصولها، ونهايتها لم تُكتَب بعد، وربما تُخفي وراءَها خداع مستتر، أو متوالية من الأزمات الأخرى، فهي قد تعني وقفًا للتوترات ولكن لا تعني نهايتها؛ فالأرض لا تزال مزروعة بالألغام والمصالح المتناقضة، والحرب الأوكرانية تأكل شطرًا من قوة الروس؛ فتتآكل عظمتها ببطء، والبركان مازال يغلي لكي يثور بسرعة وبعنف، وكل الاحتمالات قائمة؛ لأن اليقين بالمستقبل الآن في أضعف حالاته.
نعم نحتاج إلى روسيا القوية؛ من أجل التوازن الدولي، وإنهاء سيطرة الدولة الواحدة؛ حيث إن تدميرها يعني معضلةً وكارثة عالميةً جديدةً لا يقوى العالم على تحمُّلِها. والدرس الكبير بعد هذه الرواية الحزينة غير المكتملة الفصول: روسيا تحتاج إلى نظام سياسي أكثر فعالية في الديمقراطية أساسها قوة الشعب والقانون؛ وليس إلى جيوش أمن وميلشيات تزرع الرعب والخوف في النفوس.
الواقع يقول: لقد تغيرت الدنيا، وتقلب أحوالها، وتطور بشرها بالرقمنة. ما عاد مواطن السيلكون يُخفيه سكين الديكتاتور ومفرقعاته، فهو يمتلك تكنولوجيا العيش الحر، وتمتلئ رئته بأوكسجين الديمقراطية، وحلمه يكبر مع الأيام، وعقله غير مضطرب بهلوسات الديكتاتور .
لا دخان بدون نار من فواجع الدول؛ الديكتاتور هو صانع الأزمات والكوارث. نقطة رأس السطر!
اضف تعليق