كنا قد حذرنا من تسييس بعض القضايا الحساسة المتعلقة بالشأن الداخلي للعراق، على حساب مصالح خاصة، ومنها قضية "الحشد الشعبي"، واستخدامها كورقة ضغط تمارس بين الكتل والاحزاب السياسية النافذة في البلد من اجل عمليات التسقيط او الربح السياسي الاني... سيما وان ربط قوات امنية تقاتل في غرب وشمال العراق ضد تنظيم ارهابي متطرف، بقضايا تمس موجة الاصلاحات ومكافحة الفساد وتعديل القوانين والتشريعات الدستورية، يحولها من هدفها الحقيقي في الدفاع عن البلاد من الغرق في هاوية الإرهاب والتطرف، الى نوع من الصراع الجدلي بين (رموز الفساد) و(الهوية الطائفية)... وكلاهما يمثلان دوامة سياسية لا خلاص منها، على الأقل في الوقت الراهن.
عندما انطلقت تسمية "الحشد الشعبي"، على المقاتلين المتطوعين لسد الفراغ الذي خلفه انسحاب القطعات العسكرية في الشمال والغرب، والتصدي لتقدم مقاتلي تنظيم (داعش) نحو العاصمة بغداد، وصولا الى وسط وجنوب العراق، بعد ان سيطروا خلال أيام على مساحات واسعة من 5 محافظات عراقية، لم تكن هذه التجربة الوحيدة خلال سنوات المحنة التي مرت بها البلاد في حربها مع (الإرهاب العالمي).
فقد سبقتها تجارب (الصحوات) و(الاسناد)، وصرف على بنائها ودعمها أموال طائلة، وأشرف عليها الجيش الأمريكي، مقابل نتائج محدودة، مع الاخذ بعين الاعتبار ان الهدف من اعتمادها كواجهة قتالية امام تنظيم القاعدة، كان للإسناد من خلال مسك الأرض وتحرير بعض الجيوب في مناطق محدودة، وبالتعاون مع القوات الامريكية والعراقية، وليس فتح جبهات واسعة والاشتباك مع عدو يفوق، اضعاف المرات، قدرة وتنظيم العدو السابق.
اليوم لا نكاد نسمع أي شيء عن (الصحوات) السنية ولا عن قادتها، على الرغم من اتساع تشكيلاته ليصل الى عدة الالاف مقاتل قبل اغتيال قائد الصحوات (عمر أبو ريشه) على يد مقربين منه، وقد لعبت المصالح السياسية اللاحقة، دورا أساسيا في تمييع قوة (الصحوات) والهدف الذي أقيمت من اجله، لتصبح مجرد (حبرا على ورق)، حتى ان سقوط الانبار (معقل الصحوات) أصبح مسالة وقت بالنسبة لتنظيم (داعش) الذي خلف تنظيم (القاعدة) في السيطرة على هذه المحافظة.
أحد أسباب فشل الصحوات وعد قدرتها على الصمود، هو المصالح السياسية التي تلاعبت بالجميع واستخدمت ورقة الصحوات لتحقيق مكاسب مادية وربحية... الانتخابات، صفقات الفساد، الطائفية، المناصب...الخ.
الحشد الشعبي وجد في ساعة حرج هددت بقاء الدولة العراقية ومؤسساتها وتماسك المجتمع فيها، الحاجة الى وجود قوة شعبية تتصدى لتمدد تنظيم داعش وسيطرته على المزيد من الأراضي، هي من افرزت فصائل الحشد الشعبي، اما هويته الدينية او المذهبية او السياسية فهي ليست ضمن الأولويات، بل لا تغني او تنفع في شيء.
الانتصارات التي حققها الحشد الشعبي كانت سريعة وقوية، جعلت تنظيم داعش يعيد الكثير من حساباته بعد ان اجبر على الانسحاب من مناطق كان قد سيطر عليها، بعد مواجهة فصائل الحشد الشعبي المختلفة، لكن الأمور لم تكن تجري في سياقاتها الاعتيادية بصورة دائمة... غالبا ما يتم التعامل مع الامر من زوايا مختلفة، وقد شهدت معركة تحرير (تكريت) احدى هذه الزوايا الحادة... ومنها توقف القتال لعدة أسابيع قبل ان تنتهي الازمة بتفاهمات جرت تحت الطاولة بين الحكومة العراقية واطراف خارجية، اشارت اغلب التكهنات في وقتها الى (ايران) و(الولايات المتحدة الامريكية).
اليوم هناك العديد من التحديات التي تعترض جهود مقاتلي الحشد الشعبي، وتحتاج الى رؤية جادة وحقيقية من الحكومة المركزية ومن يعنيه الامر... منها:
- الهجرة الجماعية للشباب نحو اوربا.
- التناحر السياسي بين الإصلاحات ومكافحة الفساد ومحاولة زج مسالة الحشد الشعبي في وسط هذه المعمعة.
- الطائفية وما تبغيه من خلط الأوراق، رغم وجود مقاتلين من عدة اديان ومذاهب يشاركون في هذه الحشد.
- أطراف خارجية عرقلت وتعرقل مسيرة الحشد الشعبي الوطنية.
- أطراف سياسية داخلية تحاول السيطرة على الحشد واحتواءه ضمن اجنداتها الضيقة، واستخدامه كورقة للضغط على الحكومة والعملية السياسية وقت الحاجة.
ختاما... نصيحة الى ساسة العراق، لا تضيعوا فرصه ما وصل اليه الحشد الشعبي من قوة واقتدار امام اهواء ومصالح فردية، فالعدو ما زال يتربص بنا، وان دارت الدوائر، وتحول (الحشد الشعبي) الى (صحوات) قتالية المظهر، سياسية المضمون، حينها صدقا لن ينفع الندم.
اضف تعليق