الديمقراطية تعني حرية ابداء الرأي فيما يحصل، وتأشير مواضع الخلل بالنقد البناء، لكن الجميع لا يستسيغ النقد، ويعده تسقيطا، او مؤامرة لإزاحته عن السلطة، او ارباكه في المنافسة، او وضع العثرات في طريقه، فهذا رمز لا يجوز انتقاده لأنه فوق الشبهات ولا ينطق عن الهوى، وذاك يُفترض الا تقلل من روحه المعنوية...
كيف للديمقراطية أن تؤتي ثمارها، اذا لم يكن القائمون عليها مؤمنين بها، ومستعدون للتضحية في سبيل ترسيخها في الدولة والمجتمع؟ وفي تجربتنا لا ايمانا تلمسنا ولا تضحية رأينا، ومصداقها غياب النموذج الديمقراطي القابل للاحتذاء على مستوى الأشخاص والأحزاب والممارسة الأوسع، فلم نسمع بمؤتمر انتخابي لاختيار قيادات جديدة.
وان وجد وهو من النوادر تحسم نتائجه مسبقا على طريقة الأولين، وجل ما شهدناه دكتاتوريات صارمة سواء في الدولة التي على السطح او تلك التي في العمق وهي الأشد والأقوى من الطافية، فعلى السطح يجري تدوير الحي مع الميت مع العليل، ولا يخطر حتى في احلامنا ان يحصل تغييرا على الخريطة، تبدلات في القلة من الوجوه، لكن الحال باقية على سوئها، والوضع في العمق كما عهدناه قبل عقدين من غير التي سبقت الاحتلال.
وربما يتواصل ببقاء الزعامات الى الأبد طالما هي على قيد الحياة، فأين الديمقراطية التي رفع الجميع شعارها ودفع الشعب أثمانها؟ لا يمكن للمرء سوى القول بلا تردد: ان التشبث بالديمقراطية ليس خيارا وطنيا يُراد به النهوض بالعراق بعد عقود من الانكفاء، بل لأنها واقعنا تصب في الفئوي والشخصي من المصالح، لذا لا غرابة في افتقاد الادارة الرشيدة للمجال العام، وشيوع مظاهر الفساد، والتخبط في ادارة الأزمات، فالنظر قصير، والرؤية ضبابية، والمشروع غائب، ذلك ان العقول نفسها والأفكار ذاتها.
الديمقراطية تعني حق المشاركة في صنع القرار، وليس اقتصاره على اولئك الذين يظنون امتلاكهم للحقيقة، الملهمون الذين لا يخطئون او يتسممون سياسيا، وكيف لك أن تحرص على الممارسة الديمقراطية والمشاركة السياسية، اذا كنت متيقنا ان الذي يصل لدائرة صنع القرار من غير الذين ترى فيهم الكفاءة والوطنية والنزاهة، فالأبواب صارت مشرعة للمغامرين والمقاولين والذين لا يجيدون سوى الثرثرة، والذين يدينون بالولاء المطلق للزعيم، بينما أغلقت بوجه غيرهم قصدا وبهتانا.
الديمقراطية تعني حرية ابداء الرأي فيما يحصل، وتأشير مواضع الخلل بالنقد البناء، لكن الجميع لا يستسيغ النقد، ويعده تسقيطا، او مؤامرة لإزاحته عن السلطة، او ارباكه في المنافسة، او وضع العثرات في طريقه، فهذا رمز لا يجوز انتقاده لأنه فوق الشبهات ولا ينطق عن الهوى، وذاك يُفترض الا تقلل من روحه المعنوية، وثالث مخيف وتتحاشى المساس به، ورابع لابد من الحفاظ على هيبته لأنه مسؤول عن العدالة، وخامس ثري وله من الأساليب ما يعيدك الى حيث كنت، وسادس وسابع.
وليس رحبا في النقد سوى صدر الحكومة لأنها لا تعني أحدا من المذكورين، وبهذا ما عاد بمقدورك أن تكون واضحا وصريحا ومباشرا في التعبير عن آرائك ومواقفك ازاء ما يحصل لبلادك من دمار وخراب، وانت الذي تغلي دواخلك لمراوحتنا في المكان، وتراجع هيبة بلادنا ووزنها قياسا بالذين كانوا الى وقت قريب مثار تندرنا.
ليس مقنعا أبدا الكلام الذي يقول : ان ترسيخ الديمقراطية يقتضي عقودا من الزمن، وبحارا من الدم، وأمواجا من الفوضى الخلاقة، يمكن للزمن أن يُختصر مع الايمان، وللخطوات أن تُكثف بوضوح الرؤية، وللفوضى ان تتلاشى مع الانتماء للوطن، وللدم أن يتوقف عندما نعلي للإنسان قيمة، للذين على قمة الجبل والرابطين على سفوحه: القائد من نذر نفسه للإنسان وليس للسلطة، بهذا وحده وليس بغيره يكتب أسمه بخطوط لامعة في سفر تاريخنا.
صدقوني: بالديمقراطية الحقيقية وليس بالسلاح فقط نواجه الخطوب، ما يريده الأعداء ديمقراطية زائفة تواصل مسيرتها دون عثرات، نعم تجنون منها مالا وسلطة ونفوذا، لكن تبصروا في عمقها ترون هشاشة السلطة وفقدان الاستقلال وانتهاك السيادة، وتيقنوا: مع الزيف لا نفوذ يدوم ولا مالا يبقى، ومعها يتعذر على بلادنا وشعبنا التعافي، وبها تكون الطريق سالكة لمشاريع الهيمنة.
اضف تعليق