مضى على التغيير عقدان حفلا باحتدام والتباس شديدين وتيه مجتمعي واعتلال علاقة الدولة بالمجتمع، والمجتمع بالقانون، والحريات بالقيم الاجتماعية، والسيادة بالكرامة الوطنية، والتقدم والتنمية بالمساواة المجتمعية، مضغ العراقيون كلاما كثيرا عن الهويات وحقوق الجماعات وآليات السيطرة والتحكم، والان تلوح فرصة للتفكير الهادئ والعقلاني لمواجهة ما تراكم في سنوات الصراع بمفاهيمها الملتبسة...
أبرز ما سجلته المرحلة الانتقالية التي أعقبت سقوط نظام صدام عام 2003 هو انحسار دور المثقف، وغياب الحيوية عن الحقل الثقافي العراقي لصالح دور الزعيم السياسي، والناطقين باسم الطوائف، والمدافعين عن الجماعات ومصالحها وحقوقها.
قد لا يشكل هذا التراجع لدور المثقف أمرا استثنائيا في مثل ظروف العراق العاصفة وتبدلات أحواله، في ظل جمهورية الخوف وقسوتها وصمتها، ثم الانتقال الشرس من الاستبداد والشمولية إلى الحقبة الحالية، غير الطبيعي هو استمرار تراجع دور المثقف، وخفوت صوت الثقافة في النسق الاجتماعي والسياسي وفي المجال العام، بسبب صعود الأدلجة السياسية، وتغلب منطق المتاجرة في الدين والطائفة والأيديولوجيا واندفاع الكثيرين إلى الاستثمار في هذا الحقل، دونما تكوين ثقافي ومعرفي رصين أو وعي بصير بالمآلات الاجتماعية والقيمية.
لم تخل الحياة السياسية العراقية من أدوار لمثقفين منذ تأسيس الدولة الحديثة، كان أكثرهم متاريس في جبهة الاحزاب والمشاريع الأيديولوجية ذات الأهداف السياسية السلطوية، مثقف السلطة كما مثقف الجبهة المضادة المعارضة، لا يستطيعان الافلات من أسر الايديولوجيات واطواق الفكر المعلب، لكن هذا الدور يفقد مشروعيته، كلما تبادل الساعون إلى السلطة المواقع والخطابات الهجائية، وصار الدور ارتزاقا يدور على هامش الافكار ويقتات على خطوط الخصومة والرفض المتبادل.
في حمأة الصراعات السياسية والاستقطاب الطائفي والقومي، يعمل زعماء الطوائف وقادة القوى السياسية المسلحة إلى تسخين خطابات الهوية الفرعية وتصعيد اجواء التعبئة، في تلك المناخات المضطربة يتوارى الفكر والمفكرون والثقافة والمثقفون، وتحضر رجالات السلاح وحراس الامن والمدافعون عن حريم الجماعات، حينها لا صوت يعلو على صوت مواجهة الخصوم وكسر المناوئين وتسفيه خطاباتهم المتحيزة، اما مواجهة الحقائق وفضح الخطاب الموارب، وكشف المستور من ممارسات وسياسات تنتهك عالم المثل والاخلاقيات والمعايير الانسانية وتبشر ببدائل معقولة، فهي مدار عمل رهط من المثقفين ونقاد الفكر والسياسة استطاعوا التحرر من الأيديولوجيات.
لكن إلى اي حد يستطيع المثقف أن يمارس دور ماكنة النقد وكشف الأوهام والتزييف؟
وكم هي مساحة الدائرة التي يستطيع الحراك فيها بموضوعية ومعقولية ويمارس انسانيته وحريته؟
أظن أن جواب السؤال يقتضي معاينة قدرة المثقف على موازنة الفاعلية الثقافية والنقدية والكشفية، وبين محددات البيئة الاجتماعية والدينية والسياسية.
سأستخدم مقولة هربرت ماركوز أحد الفلاسفة الاجتماعيين، ومن رموز مدرسة فرانكفورت لتحديد دور المثقف، ماركوز يقول: على المثقف كي يكون كما يجب أن يكون، أن يواجه المجتمع المسيطر ببديل اجتماعي متحرر من السيطرة، يتيح للإنسان مهما كان لونه ووضعه ومعتقده، حياة مبرأة من القمع والحرمان، أن دور المثقف الملتزم يكمن في توزيع الحقيقة على البشر، كي يبصروا ما يجب التخلي عنه وما يجب الأخذ به.
إن الجهر بالحقيقة مهمة المثقف الاساسية -بتعبير سارتر، وما لم يستعد المثقف دوره ويخلع عنه أردية التعصب الحزبي والطائفي والقومي والجهوية ويكف عن الترويج لمشاريع الوهم، فلن يتمكن من اداء الدور المناط به، دور الانتلجنسيا المهمومة بحرية وكرامة الانسان وحكم القانون وبناء النموذج، الذي يضمن دولة الرفاه والمجتمع المفتوح والخيارات العقلانية.
مضى على التغيير عقدان حفلا باحتدام والتباس شديدين وتيه مجتمعي واعتلال علاقة الدولة بالمجتمع، والمجتمع بالقانون، والحريات بالقيم الاجتماعية، والسيادة بالكرامة الوطنية، والتقدم والتنمية بالمساواة المجتمعية، مضغ العراقيون كلاما كثيرا عن الهويات وحقوق الجماعات وآليات السيطرة والتحكم، والان تلوح فرصة للتفكير الهادئ والعقلاني لمواجهة ما تراكم في سنوات الصراع بمفاهيمها الملتبسة للانتقال إلى الحقل الاساسي، حقل بناء الدولة واصلاح السياسات العامة وتصحيح علاقة المواطن بالدولة، فلن تقوى الدولة بدون مواطن فعال، ومجتمع مؤمن بالحقوق الاساسية ومدافع عنها، حقوق الافراد كما حقوق الفئات، تحت سقف الدولة والنظام والقانون والسيادة الوطنية.
ثمة فرصة لاعادة الحوار الثقافي السلمي بهدوء عن الوطنية الحقة والمواطنة الملتزمة والتدين الرحماني والسلطة التمثيلية والدستورية التعاقدية، لتجاوز اشكاليات الفصام النكد بين الدولة والمجتمع والانتهاء من السلوك السلطوي والتعسف والتلبيس المتعمد والوعي الزائف والفساد المحمي بالارادات السياسية، عانى العراق من سنوات تيه متطاولة، رغم تاريخه الحضاري التعددي وثرائه الفكري، وينتظر من مثقفيه ومفكريه اعادة مسار الحوار المجتمعي إلى ما يؤمن الاستقرار والسلم الأهلي والتنمية الشاملة والتغيير الاجتماعي بلا شروط، أن الانتقال من سياسات الهوية وسلطة الأيديولوجيا إلى سياسات التنمية والتغيير عمل كبير يحتاج إلى خطابات تفكيكية ورؤية ترسم خطوات الانتقال، وهنا يحضر دور المثقف- قبل السياسي والرجل الحزبي - في اثارة النقاش المجتمعي العام، وصناعة البدائل، غير أن العراق يعاني من اشكالية حقيقية اخرى متفرعة من اشكالية دور المثقف، اذ من هو المثقف فعلا؟
ما مواصفاته؟ فهل هو الأديب الشاعر والقاص وكاتب الرواية والنص المسرحي، أم صانع الافكار وملهم السياسات ومجدد الخطابات ومفكك الالتباسات؟
اضف تعليق