q
اليوم اميركا وضعت الجميع امام خيارين لا ثالث لهما، وهما أما أن يستقل العراق في سياساته عن أي تأثير اقليمي أو مواجهة نتائج اقتصادية كارثية، وان على القوى التي لها صلات بدول اقليمية بدوافع عقائدية أو مصلحية ان تدرك هذه الحقيقة وتقرأها جيدا...

قبل أيام، كنت ضيفا على راديو (سوا)، صحبة الباحث د. عقيل عباس من واشنطن، والحديث عن ازمة الدولار.. تحدثت من جهتي عن البعد السياسي في هذه الازمة، كوني لست اقتصاديا، وقلت بما مضمونه، ان ما يجري اليوم في العراق وعلى مختلف المجالات هو من مخرجات ثورة تشرين التي تسير باتجاه اهدافها النهائية، ولو بخطى بطيئة نسبيا، لكنها محسوبة.

فعملية تهريب الدولار وتبييض الاموال في العراق ليست جديدة، لكن الواقع السياسي العراقي مرّ بمراحل القت بظلالها على الكثير من الفعاليات الحياتية والسياسية والاقتصادية فيه، اذ كان (المحافظون الجدد) بزعامة بوش الابن، يسعون إلى تقسيم العراق بعد احتلاله، كمدخل لتقسيم المنطقة كلها، وكانوا يغضون الطرف عن الكثير من الممارسات لكي يصبح المزاج الشعبي مهيئا للتقسيم ومتقبلا له.

لكن هذا المشروع فشل في نهاية عهد أوباما لأسباب عديدة لامجال لذكرها، وبدأت صفحة جديدة ليس في تاريخ العراق وحده بل في المنطقة، افتتحتها ثورة تشرين في العراق، التي أنهت الهيمنة الاقليمية على العراق بشكل كبير واستعادت الدولة العميقة التي كانت بأيدي قوى محلية سياسية متصارعة ومرتبطة بقوى خارجية داعمة لها، ورئيس الوزراء ليس اكثر من اسم رمزي، يستجيب لهذه القوى وغير قادر على مواجهتها، لاسياسيا ولاعسكريا، كون المؤسسة العسكرية والأمنية ممسوكة من قبل تلك القوى بشكل أو بآخر.

بعد ثورة تشرين واسقاط حكومة عبدالمهدي، بدأ الاشتغال على استعادة الدولة من دون أن يلمس المواطن البسيط ثمار هذه التغييرات التي كانت في العمق وليس في الشارع.. وقد كان من ثمار تشرين الأولى هو مد الجسور مع عمق العراق العربي والاقليمي والدولي لإقامة علاقات بنّاءة بعيدا عن الهيمنة، ما عزز من واقع العملية السياسية باتجاه الاستقلالية ونبذ تلك الهيمنة التي كانت تكبّل العراق وتسمح للقوى السياسية التي لها ارتباطات خارجية في العبث بالعملة وتهريبها من خلال مصارف وهمية.

وان الاميركان كانوا يعرفون ذلك، لكنهم لا يستطيعون اتخاذ اجراءات عملية، لانها ستنفذ من قبل الحكومة، وبما ان الحكومات المتعاقبة ممسوكة من قبل احزاب لها مصالح وارتباطات خارجية وتعيش في واقع سياسي وامني يمثل حاضنة نموذجية لها، لذا اصبح من المستحيل الاقتراب من هذه المسألة الحساسة.

بعد ان اصبح واقع المؤسسة العسكرية والأمنية العراقية مختلفا كثيرا عما كان عليه قبل الثورة، واصبح المزاج الشعبي العام في معطى جديد، اتخذت حكومة السوداني اجراءات لابأس بها حتى الآن وإن لم تكن كافية لمواجهة الفساد، اي ان تقرير بلاسخارت الاخير الذي اشاد بذلك وطالب بالمزيد يعكس رؤية الشارع ورغبته ايضا، بمعنى ان هناك رؤوسا كبيرة هي من تقف وراء الأسماء الصغيرة والمتوسطة التي جرى التعامل معها قانونيا في الأشهر الأخيرة.

وان اميركا اصبحت على ثقة بان اية قوة تمتلك السلاح خارج نطاق الدولة لا تستطيع من فرض نفسها على الشارع، بوجود جيش قوي ومؤسسات امنية اخرى قادرة على قمعها، بالإضافة إلى المزاج الشعبي العام الذي بات ناقما عليها، بل انه يسعى إلى التخلص منها، ومن رحم هذه الرؤية الشاملة جاءت الاجراءات الاميركية الاخيرة في ضبط حركة الدولار العراقي، الذي كان يهرّب إلى الخارج بعد ان تزعم بعض المصارف الاهلية انها تحوّل تلك الاموال لعملائها بغية شراء مواد من دول اجنبية.

عملية التأكد من حقيقة تلك الشركات التي قام بها الفيدرالي الاميركي مؤخرا، والتي أثبتت عدم وجودها جعله يوقف عمليات ضخ اموال النفط العراقي التي مازالت حركتها خاضعة لشروط البند السابع من قرارات مجلس الامن، ذات الصلة بأحداث التسعينيات.

وفي الخلاصة أنه لو لم يكن الواقع السياسي العراقي الحالي وكذلك الواقع الامني بالشكل الذي بات عليه، فإن اقدام البنك الفيدرالي الاميركي على هذه الخطوة يعني وضع رئيس وزراء العراق في مواجهة غير متكافئة مع تلك القوى، ان لم يكن هو جزءا منها... اليوم اميركا وضعت الجميع امام خيارين لا ثالث لهما، وهما أما أن يستقل العراق في سياساته عن أي تأثير اقليمي أو مواجهة نتائج اقتصادية كارثية، وان على القوى التي لها صلات بدول اقليمية بدوافع عقائدية أو مصلحية ان تدرك هذه الحقيقة وتقرأها جيدا.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق