دول تنهار واقتصادات تفلس، ومخيمات النزوح والهجرة تتسع، والإنسان يتعذب ويشقى، كل ذلك لأن قادة الصراع مقتنعون بأفكارهم وشعاراتهم، لا أحد يريد اخذ استراحة محارب ليفكر بهدوء، ماذا أنجز؟ وأين أخطا؟ ولماذا إنساننا يزداد عذابا وشقاء،؟ متى تنعم مجتمعاتنا بالهدوء والاستقرار والتنمية والازدهار؟ ...
كل مراجعة سياسيَّة تقف خلفها مراجعة معرفيَّة، لا تكف معارف الإنسان عن النماء والتطور، إذا ما جعل أفقه مفتوحا وعقله ناقدا، تتراكم الأسئلة بشأن الحياة ومشكلاتها، وتتصارع القيم والأخلاقيات، وتتعدد مدارس التفكير والتفسير والتنظير، مثلما تتزايد احتياجات البشر وتتعدد مسارات الإدارة والتنمية وطرائق تيسير الحياة وتحسين جودتها، الحضارات تفاعلت وتتفاعل.
وتجارب الإنسان تتكامل على مر الأزمنة، فلا شيء يبقى على حاله ما خلال العقائد الدينية الأساسية ومنظوماتها التشريعية وأخلاقياتها وقيمها، وقد وضع العلماء قواعد ومناهج للتفسير والتأويل، وتواصلت الابداعات الفكرية والفلسفية والعلمية والتقنية، ومع كل جديد يضاف إلى معارف البشرية تستجد قيماً وحاجات، ويجد الإنسان نفسه ما بين حاجة إلى المعنى، وحاجة إلى المبنى، ولذلك تتجدد الأفكار والنظريات وتتراكم حلول وتستجد رؤى، ويكتشف الناس أن شوط المعارف لا يكف عن التكامل، وأن علوم الإنسان تنمو في اكتشاف تفاصيل الحياة، وما زال المجهول كثيرا والبحث عن الحياة الرغيدة والرفاه الكامل بعيدا.
في سعي الإنسان إلى تشييد النظم السياسية والاقتصادية الملائمة لحاجاته والمستجيبة لطموحاته وغاياته، يقف العالم على خيارات متعددة، بعضها وضعها بنفسه وبحدود ما أبدعه عقله، وبعضها الآخر ينتسب إلى منظوماته العقدية والدينية، ما بين الاثنين صراع لم يتوقف، فملل الإنسان من هيمنة فكر ديني تقليدي بعينه، يراه معيقاً وجامداً ومتصلباً، يتوازى مع وضعية تحاول تجديد قوتها واختبار فرضياتها، والنظر في مصالح الإنسان، ولكن أي إنسان، انه إنسان البعد الواحد كما سماه هربرت ماركيوزة عام 1964، أحد فلاسفة مدرسة فرانكفورت الألمانية، هذه المدرسة التي تبنت العقلانية النقدية وسعت إلى تحرير الإنسان من السلطات القامعة له والأيديولوجيات الشمولية، التي جعلته أسيرا، كل ذلك بغرض تخليص البشر من الشرور المتعددة، التي تنتجها انظمة الحكم وادارة الاقتصاد وتنظيم المجتمعات، وفق رؤى سلبت الإنسان حريته واستقلاله وفرادته في هذا الكون.
ظلت اتجاهات مدرسة فرانكفورت تمثل صيحات معرفية وفلسفية في عالمنا المعاصر، أثرت في المنتج المعرفي والتنظيري الغربي، لكنّها لم تنجح في تفكيك آليات السيطرة المتعددة، التي صاغتها الحضارة المعاصرة، فها هو الإنسان يكابد الحروب والقمع وانتهاكات حقوقه الفردية والجمعية ويواجه مشكلات الطبيعة والتدمير المتسارع للنظام البيئي، وتزداد قوى ومجتمعات غنى ورفاه على حساب فقر وتخلف مجتمعات اخرى بسبب انعدام العدالة والهيمنة.
لكن الغرب يظل حيويا وفعالا ومنتجا ومبدعا، ناقدا لنفسه من داخله، وبفعل هذه الحيوية والحركة النقدية المستمرة استطاع البقاء في مقدمة قطار الحضارة البشرية يقودها بلا منازع، صحيح أنه ينتكس مرات ومرات أخلاقيا وقيميا وينهض مرة، غير أنه لا يكف عن الإبداع والتغيير والتجديد.
بموازاة ذلك أخفق الطريق الثالث الذي نادت به القوى الاسلامية منذ منتصف القرن الماضي وبشرت به نموذجا جديدا يستعيد الق نموذج ماضوي في تمثل القيم الدينية والأخلاقية القائمة على العدالة والمساواتية، وتكريس المعنى في حياة الإنسان، من خلال منظور إسلامي للحياة يستمد قيمومته من فكرة الدين الخاتم.
قضت الحركات الاسلامية نصف قرن تبشر بأفكارها وتكابد محن الصراع مع أنظمة الحكم والتيارات الأيديولوجية التي جعلتها خصما وعدوا لدودا، وبدل أن يأتي الحل على يد القوى الإسلامية لمشكلات الحضارة ومنتجاتها السياسة والاقتصادية والثقافية، وجدنا مجتمعاتنا تدخل في صراعات دامية مدمرة، بدل أن تجرب فكر التعايش والمهادنة والسلمية والاقناعية، صار الصراع قيمة بحد ذاته، وصار التثقيف يتمحور حول فكرة مركزية: يجب أن تدافع عن فكرك ووجودك وقيمك، التي لخصها شعار الاسلام هو الحل، أو تدمرك آليات الخصوم بكل ما أوتوا من قوة.
بين الرؤيتين المتقابلتين انطبعت أيامنا بفكر شمولي واخر لا يقل شمولية، كل جبهة تدعي ان الاخرى خطر على الإنسان وحضارته ومدنيته وحريته، ودخلنا في خصومة أفقرت الشعوب وأدمت حياتها وخربت استقرارها ونماءها، وما زالت طبول الحرب تقرع، من المغرب غرباً إلى اندونيسيا شرقا، لنلاحظ أن قلب العالم الاسلامي ما زال ينزف، وما زال هدر الموارد والطاقات على أشده، وتستمر التعبئة والاجهاد النفسي والعصبي والمادي في أعلى مستوياته، دول تنهار واقتصادات تفلس، ومخيمات النزوح والهجرة تتسع، والإنسان يتعذب ويشقى، كل ذلك لأن قادة الصراع مقتنعون بأفكارهم وشعاراتهم، لا أحد يريد اخذ استراحة محارب ليفكر بهدوء، ماذا أنجز؟ وأين أخطا؟ ولماذا إنساننا يزداد عذابا وشقاء،؟ متى تنعم مجتمعاتنا بالهدوء والاستقرار والتنمية والازدهار؟
هل كتب علينا القتال الدائم؟ ومن أجل من؟ ولفائدة من؟ هل فعلا أن الدين في خطر واستقلالنا مصادر، أم أننا لا نريد أن نغادر فكرة وخطاب الصراع والمؤامرات، بدعوى أن الآخرين لا يكفون عن الكيد لنا، وتخريب أخلاقنا وقيمنا؟ كيف نقدم الإسلام دينا للسلام حتى لو كان دين الآخرين القتل والقتال، بينما يستمر الكثير منا ينظر إلى العالم من ثقب صغير وثنائيات لا تقبل التأويل؟ لماذا لم ننجح في بناء نموذجنا العتيد؟ هل صحيح أن الآخر لا يسمح لنا بذلك؟ أم أن العوائق ذاتية وليست كلها خارجية؟ هذه اسئلة تحتاج إلى إجابات جادة ومقنعة، معرفية وليست ايديولوجية، تفكيكية وليست بغرض الدفاع وصياغة خطاب الرفض والمقاومة والقمع لكل تساؤل جاد.
جواب الاسئلة الآنفة سيكون مراجعة ذات أهمية فائقة، لأنها ستحدد الخيارات القادمة، وقد تسهم في تغليب وعي جديد على أنقاض المأساة الكبرى فما لم ينقد الوعي السائد لن ينقشع الظلام.
اضف تعليق