اسلوب الترويج والتوظيف من خلال استضافة الفعاليات الرياضية اختلف بشكل كبير عن السنوات السابقة، إذ اصبحت الرياضة منصة مهمة في إبراز صورة وهوية الدولة وعلامتها التجارية على الساحة الدولية والتعريف بثقافة الشعوب وتسويقها وتعزيز العلاقات بين الدول، ولاسيما انها تساعد في جذب انتباه مليارات الأشخاص، منصة مثالية لتسليط...
ادخل في القاموس السياسي والإعلامي الحديث بعض المفاهيم السياسية التي اقحمت نفسها بقوة في عالم السياسة، وابرز هذه المفاهيم ذلك المفهوم الذي اوجده او اخترعه الكاتب الأمريكي جوزيف ناي في تسعينيات القرن الماضي، الذي اعطى من خلاله تصور جديد للقوة الامريكية، واراد ان تستعيض الولايات المتحدة الأمريكية عن قوتها التقليدية في السياسة الخارجية وموازنتها بالقوة الذكية، وهي القوة القائمة على المزج بين القوة الصلبة (القوة العسكرية والاقتصادية) وبين القوة الناعمة (القيم السياسية والثقافية وعناصر التأثير والاقناع... وغيرها من الادوات غير العسكرية) .
وقد اسرد ناي اهم مفاصل وادوات تلك القوة التي من الممكن ان تستثمرها الدول في تصدير نفسها وانموذجها السياسي للعالم الخارجي من خلال عدة عناصر وادوات، وقد ركز على الثقافة السياسية والشعبية والقيم السياسية والسياسة الخارجية والفن والسياحة والإعلام، الا انه لم ينتبه للرياضة والفعاليات الرياضية في تنظيره للقوة الناعمة بالشكل الكافي، ان لم يكن قد تجاهلها بشكل كامل، وهذا التجاهل ربما لم يكن متعمداً او عن جهل، فقد بقي تأثير الفعاليات والنشاطات الرياضية بشكل عام نسبياً، ولم يستطيع ان يقحم نفسه أنذاك كأداة مهمة وفاعلة من ادوات أو عناصر القوة الناعمة.
على العكس ما نشاهده في عالم اليوم او في العقد الاخير والدور الكبير الذي تلعبه الرياضة والفعاليات الرياضية على كافة المستويات، حتى اصبحت مورد مهم من موارد او ادوات القوة الناعمة وشريكا أساسا وفاعلا في متطلبات وإنجاز السياسة الخارجية الفاعلة ومد جسور التعاون والتبادل واقامة العلاقات الناجحة وتصدير القيم السياسية والثقافة الشعبية للعالم الخارجي من خلالها؛ وذلك لما لها من مكانة وتأثير في نفوس الشعوب، فضلا عن الاقتصاد الذي يستثمر في الرياضة وشؤونها، إذ تنامت موارده وتوسعت مساحاته، حتى باتت الكثير من الدول ولاسيما الصغيرة، تركز على القوة الناعمة كإستراتيجية تساعدها على تقديم نفسها كدولة مؤثرة عالميًا من خلال الإعلام أو السياحة أو الاقتصاد أو الرياضة.
وتعد دول الخليج وقطر على وجه التحديد، من اكثر دول العالم التي استثمرت النشاط او القطاع الرياضي بشكل ناجح وكبير للغاية، وهذا ما شاهدناه في تنظيم بطولة كأس العالم نهاية العالم الماضي، فضلاً عن اهتمامها الكبير في القطاع الرياضي من منشآت واكاديميات رياضية وتعاقدها مع الاسماء الرياضية المؤثرة في عالم كرة القدم، إذ تحاول ان تصدر نفسها للعالم الخارجي من خلال اهتماها بالنشاط الرياضي، وهذا ما ساعدها بشكل كبير في تحقيق مبتغاها حتى اصبحت قطر تحظى باهتمام سياسي ورياضي عالمي وتتمتع بدور كبير في المنطقة والقارة الاسيوية وكذلك العالم على مختلف المستويات.
ولأهمية ودور القطاع الرياضي الذي برز مؤخراً بشكل كبير على الساحة العالمية، اخذت بعض الدول تهتم وتزيد من استخدام مفهوم الدبلوماسية الرياضية، ولاسيما خلال العقدين الماضيين، حتى أصبح يحتل مكانه داخل عالم الدبلوماسية العامة الذي يتطور ليشكل أساسا لبناء علاقات طويلة الأمد بين الشعوب، وقد أصبح هناك قدر من الاتفاق على أن الرياضة أصبحت وسيلة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية للدول وبناء قوتها الناعمة، وتشكيل صورتها الذهنية، ووضع قضايا سياسية على الأجندة الدولية. إلا أن الفعاليات والنشاطات بأشكالها المختلفة، سواء ما تعلق منها بالرياضة او غيرها من القطاعات، لا يمكنها ان تنتج موردا للقوة الناعمة، دون ان يكون لها تخطيط مسبق واستثمار ذكي، وبغياب هذين الشرطين ربما تصبح تلك الفعاليات هدرًا للموارد والوقت، او قد تكون شكلية فقط.
إن ما نشاهده في العراق اليوم من خلال تنظيم بطولة الخليج العربي أو ما تسمى بـ(خليجي 25) التي استضافتها محافظة البصرة جنوبي العراق، تمثل حدثا رياضيا مهما على الصعيد المحلي والإقليمي، على الرغم من ان البطولة غير معترف بها من قبل الاتحاد الدولي (الفيفا)، الا ان الحضور الرسمي الذي حظيت به البطولة على المستوى السياسي والرياضي كرئيس الاتحاد الدولي وممثلة الامم المتحدة في العراق وشخصيات سياسية ورجال اعمال عراقيين وخليجيين وعرب، فضلاً عن الحضور الرياضي والشعبي الكبير من جماهير العراق ودول الخليج العربي، تعد خطوة مهمة وكبيرة في استعادة دور العراق السياسي والرياضي، من خلال توطيد جسور المحبة والسلام بين العراق ودول الخليج العربي بشكل خاص والعرب بشكل عام، بعد انقطاع دام لثلاث عقود تقريباً، ولاسيما مع تلك الروح والقيم الشعبية وحفاوة الاستقبال التي استقبل بها الجمهور العراقي، جمهور ومنتخبات الدول المشاركة في البطولة، فضلاً عن الرسائل السياسية التي اوصلها العراق للعالم اجمع من خلال تنظيم هذه البطولة، التي يبدو تأثيرها واضح في المنطقة.
ولعل اعتراض الخارجية الإيرانية على تسمية البطولة والخليج العربي واحتجاجها وتقديمها شكوى لدى الاتحاد الدولي لكرة القدم، دليل واضح وصريح على مدى تأثير هذه البطولة على المستوى الاقليمي والمنطقة بشكل عام، ولاسيما مع الحضور الرسمي والدعم الذي حظيت به والافتتاحية التي نالت رضى واستحسان الجميع على المستويين المحلي والإقليمي، فضلاً عن الإشادة الدولية، بما فيه الاتحاد الدولي لكرة القدم، ورئيسه الذي رفع صورة اللاعب العراقي ابراهيم بايش على صفحته الشخصية بعد فوز المنتخب العراقي على المنتخب السعودي الشقيق، ولعل تأثيرها وصل إلى القارة الأوروبية، فقد بارك حساب الـ (لا ليغا) الرسمي للدور الإسباني أو (La Liga بالإسبانية) فوز المنتخب العراقي على المنتخب السعودي، وقدم التهنئة للجماهير العراقية على صفحته الرسمية، وهذه بالتأكيد فيه إشارات مهمة قد تفتح قريحة الدولة العراقية على تنظيم بطولات أكبر وأكثر أهمية تكون على مستوى القارة الاسيوية، وتعيد العراق إلى موقعه الطبيعي أو قد تساهم في احياء دوره المفقود منذ فترة طويلة.
إلا أن كل هذا بحاجة فعلية إلى جهود تعضيدية واستقرار سياسي وتطور في البنى التحتية وازدهار اقتصادي وبيئة استثمارية مشجعة ووضع أمني مستقر وعلاقات خارجية متوازنة بعيداً عن سياسة المحاور.
لهذا هناك الكثير من المعطيات التي ينبغي الالتفات لها وتوظيفها خارج دائرة اوقات المرح والمتعة التي يحصل عليها الجمهور من خلال متابعة البطولة، وهو استحقاق يقع على عاتق جهات متعددة من ادارة الدولة، وخطوات هذا الاستحقاق سيبدأ معظمها بعد ان تنتهي البطولة وتعود المنتخبات الى اوطانها، وتصبح اللحظات في نفوس الجمهور ذكريات جميلة، فيما تمارس الادارات ادوارها وفي مقدمتها الطواقم الدبلوماسية لغرض الاستثمار في معطيات خليجي 25.
فضلاً عن ذلك، فقد تستهدف النشاطات الرياضية بشكل عام مجموعة من الاهداف تعكسها للرأي العام، وهذا بالتأكيد رسخته فعاليات تنظيم بطولة الخليج في العراق بشكل ناجح حتى الآن، وتم تسويقها بشكل جيد وبصورة مشرفة إلى العالم الخارجي والبيئتين الإقليمية والعالمية منها، إذ عكست بطولة الخليج في البصرة عدة أهداف منها:
- ثقافة التعايش: نجحت البطولة في توثيق ثقافة التعايش السلمي بين اطياف المجتمع العراقي بشكل كبير للغاية، مرة من خلال الافتتاحية التي اختصرت تاريخ الحضارة العراقية وتعدديتها الاثنية والعرقية، ومرة اخرى من خلال تسليط الضوء على الثقافة الشعبية العراقية وطبيعة انفتاحها وكرمها واستقبالها للوافدين العرب والترحيب بهم بعيداً عن الاختلافات الفرعية. لهذا تعد البطولة مناسبة مهمة لتصدير وترسيخ وتسويق قيم الانفتاح والتسامح وقبول الآخر في الثقافة العراقية في الداخل، والترويج لها خارجيًّا كمجتمع منفتح ومتحضر يقبل التعددية.
- المكاسب الاقتصادية: قد تكون المكاسب الاقتصادية الاقل بالنسبة للقطاعات الاخرى، لكنها بشكل عام لا تخلو من المكاسب الاقتصادية والسياسية، ولاسيما في تحسين الجانب السياحي على المدى المتوسط والبعيد.
- الأمن والوقاية الأمنية: لعل بطولة الخليج اسهمت بشكل إيجابي في هذه النقطة من اتجاهين: الاول من خلال تصحيح النظرة العربية والإقليمية بشكل عام عن وضع العراق الامني وظروفه الامنية. اما الثانية فقد ساهمت في تعزيز الأمن داخل المجتمع العراقي من خلال دفع الشباب للمشاركة والتشجيع والسفر والالتقاء مع ناس آخرين مختلفين، مشاهد قد تكون غائبة عن العراق منذ عقدين او أكثر، وهذا بالتأكيد يساهم في تشجيع الشاب في نبذ التطرف والعنف، وترسيخ قيم المنافسة والتسامح وقبول الآخر.
- السمعة العالمية: الترويج للنموذج او الثقافة العراقية عالميًّا باعتباره يمثل المدنية والتحضر والتقدم التكنولوجي والاقتصادي، وهو ما يرسخ الصورة الإيجابية عن بريطانيا في الوعي الجماهيري العالمي.
ختامًا، نعتقد بان اسلوب الترويج والتوظيف من خلال استضافة الفعاليات الرياضية اختلف بشكل كبير عن السنوات السابقة، إذ اصبحت الرياضة منصة مهمة في إبراز صورة وهوية الدولة وعلامتها التجارية على الساحة الدولية والتعريف بثقافة الشعوب وتسويقها وتعزيز العلاقات بين الدول، ولاسيما انها تساعد في جذب انتباه مليارات الأشخاص، فضلا عن كونها تعد منصة مثالية لتسليط الضوء على الدولة المضيفة بكل مجالاتها. فقد استخدام الفعاليات الرياضية الكبرى في الحالة الألمانية عام 2006 لصناعة الصورة، والتغلب على بعض الصور النمطية شائعة الانتشار عن المجتمع الألماني، خاصة ما يرتبط بالإرث التاريخي للنازية، عندما استضافت المانيا تنظيم بطولة كأس العالم آنذاك.
أما بريطانيا التي كانت تتمتع بسمعة دولية طيبة فقد استخدمتها بهدف تحقيق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية التي يأتي على رأسها: تحقيق الأمن البريطاني، واستيعاب الشباب، والتغيير من ثقافة المجتمع البريطاني باتجاه التسامح وقبول الآخر. وهذا ما ركزت عليه دراسة مشتركة للباحثين (جوناثان جريكس وباري هوليهان) على تحليل مدى إسهام الرياضة في تعزيز القوة الناعمة للدول من خلال دراسة حالتي ألمانيا في عام 2006 وبريطانيا في عام 2012.
لهذا يعتقد البعض بان العراق قادر على تنظيم هكذا بطولات واستثمارها وتوظيفها وتسويقها للعالم، الا ان ذلك بالتأكيد بحاجة إلى استقرار سياسي حقيقي وإرادة وطنية قادرة على تحقيق ذلك الاستقرار بعيداً عن النزاعات الداخلية والإقليمية وسياسة المحاور التي أنهكت الدولة والمجتمع العراقيين طيلة العقدين الماضيين، وتعزيز ذلك بساسة خارجية وطنية هادفة.
فهل يستمر العراق في استثمار خليجي 25 بفعاليات أخرى واستقرار سياسي وأمني واقتصادي، أم ستعمل الماكينة الإعلامية المضادة على تشويه هذا الانجاز الرياضي وتصدير صورة سيئة عن بعض الدول المشاركة في البطولة ويتم مزج ذلك بتوجهات وتوظيف سياسي ممنهج...؟
اضف تعليق