على الرغم من الزخم العالي الذي انطلقت به مبادرة الحزام والطريق والوعود الهائلة التي عُقدت عليها، الا أنه يمكن القول أنه وبعد حوالي عقد كامل على انطلاقها وانضمام عشرات الدول لها، أن نتائجها على الأرض لم تستطع أن تصل لمستوى التوقعات والبروباغاندا التي رافقتها...
على مدار الحلقتين السابقتين حاولت تفسير هذه الانعطافة التاريخية في موقف دول الخليج العربي وفي مقدمتها السعودية باتجاه ما أسميته بالحياد الاستراتيجي في التعامل مع الدول الكبرى.
هذا الحياد لم يكن موجوداً طيلة عمر المملكة العربية السعودية. حتى في عهد الثنائية القطبية الأميركية-السوفيتية كانت السعودية ودول الخليج معدودة ضمن المحور الغربي بالاطلاق. بقي أن نفسر اغتنام اللحظة التاريخية من قبل الصين التي طالما تمتعت بعلاقات اقتصادية تنامت بهدوء مع دول الخليج العربي خلال العقود الماضية حتى وصلت لأجمالي حجم تجاري ناهز المائتي مليار دولار سنوياً مؤخراً.
هنا يجب ملاحظة الآتي من وجهة النظر الصينية. أولاً، أنها ثاني زيارة للرئيس الصيني للسعودية، وقد أتت بعد أقل من شهرين على مؤتمر الحزب الصيني الذي عدّل الدستور ليتمكن الرئيس من البقاء لمدة ثالثة وتعزيز قبضته المطلقة على الحياة هناك.
أنها أول زيارة بعد المظاهرات التي اندلعت في الصين احتجاجا على سياسة كوفيد صفر والتي في أثرها تم تخفيف إجراءات العزل والتباعد. لقد تركت تلك السياسة آثار كبيرة على الاقتصاد الصيني الذي تراجع نموه في العام الماضي الى مستويات غير مسبوقة (بحدود 2 بالمئة فقط). لذا وفي ظل توقعات اقتصادية متشائمة للاقتصاد العالمي في السنة المقبلة، فأن عودة عجلة الاقتصاد الصيني للدوران بعد الجائحة يمكن أن تخفف من أثر تلك التوقعات السلبية من جهة وتمثل فرصة يمكن اغتنامها من البلدين لتعزيز اقتصادهما.
من جانب آخر فأن الزيارة تأتي في أعقاب أشهر من تقارير وتكهنات حول تعاون خليجي وبالذات سعودي صيني في مجال الطاقة النووية وهو ما أشار له الرئيس الصيني أيضا خلال هذه الزيارة. كما أنها تأتي في أعقاب توتر عسكري صيني-تايواني-أمريكي بعد زيارة رئيسة مجلس النواب السابقة بيبلوسي لتايوان والتي كادت تؤدي لاندلاع حرب. أخيراً فأن الزيارة تأتي في أعقاب كثير من اللغط الذي أثير مؤخراً حول مبادرة الحزام والطريق أو ما يسمى عندنا طريق الحرير. هذا اللغط يجعل من المهم تسليط بعض الضوء على ما أسفرت عنه هذه المبادرة حتى الآن.
موقع التابع
استهدفت مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها الصين عام 2013 الى نقل الصين من موقع التابع للعبة الدولية الى موقع اللاعب الأساسي فيها، وبدلاً من استخدام قوة المطرقة، لجأت الصين الى قوتها الاقتصادية المتنامية لبناء (شراكات) قائمة على مشروع ربط خطوط النقل (موانئ وسكك حديد) بين الصين وأوروبا عبر آسيا وأفريقيا مستفيدين من طريق الحرير التاريخي.
لكن على الرغم من الزخم العالي الذي انطلقت به مبادرة الحزام والطريق والوعود الهائلة التي عُقدت عليها، الا أنه يمكن القول أنه وبعد حوالي عقد كامل على انطلاقها وانضمام عشرات الدول لها، أن نتائجها على الأرض لم تستطع أن تصل لمستوى التوقعات والبروباغاندا التي رافقتها.
لقد حولت هذه المبادرة الصين الى أكبر دائن في العالم ليصل مجموع ما أقرضته للدول منخفضة ومتوسطة الدخل تحت مظلة هذه المبادرة الى 170 مليار دولار في نهاية عام 2020 من أجمالي ما أنفق صينياً على المبادرة للآن والبالغ 883 مليار دولار. فيما ناهز أجمالي القروض الصينية لحوالي 150 بلد في العالم خلال العقد الماضي حوالي تريليون دولار.
لقد نافست الصين فعلياً صندوق النقد الدولي كأكبر مؤسسة اقراض دولية. أدى هذا الأفراط في الدين الى تعثر واضح في السداد حتى تضاعف حجم القروض الإجمالية غير المسددة للصين حوالي 6 بالمئة من الناتج الإجمالي العالمي ،كما قُدر حجم الديون للدول المعسرة حوالي 60 بالمئة من أجمالي الإقراض الصيني!
هذا ما جعل دول مثل كينيا وأنغولا وسريلانكا وباكستان تقع في فخ الديون هذا وتضطر لمزيد من الاقتراض فقط لا نها تحتاج لتسديد الفوائد المترتبة عليها وليس أصل الدين! كما أدى هذا الإغراق الى أجبار بعض تلك الدول الى رهن أو بيع أصولها السيادية للصين لتسديد بعض ما عليها.
فقد باعت لاوس مثلاً شبكات الكهرباء الوطنية للصين. كما تنازلت سريلانكا عن الميناء الأكثر حيوية لها (هامبنتوتا) لمدة 99 سنة فضلاً عن 6000 هكتار محيطة به لصالح الصين .أما الباكستان فقد اضطرت لتضمين ميناء جوادر الاستراتيجي لصالح الصين لمدة 40 سنة مقابل 9 بالمئة فقط من عوائده لصالح الباكستان وإعفاء ضريبي كامل للعوائد الصينية! والآن تخطط الصين لإقامة قاعدة عسكرية لها بالقرب من ميناء جوادر ولن تستطيع الحكومة الباكستانية على الأغلب معارضة هذا الطلب.
لقد أساءت هذه النتائج كثيراً لسمعة وأهداف مبادرة الحزام والطريق الى الحد الذي قلل كثيراً من ترويج الصينيين للمبادرة وظهر بديل موازي لها تحت مسمى بمبادرة التنمية الدولية والتي ذكرها الرئيس الصيني بوضوح في مقاله الذي كتبه في صحيفة الرياض السعودية قبيل زيارته للرياض وقال فيه أن 17 دولة عربية رحبت بمبادرة التنمية الدولية.
كما أضطر الرئيس الصيني نفسه والذي سبق أن سمى مبادرة الحزام والطريق بمشروع القرن الصيني الى الاعتراف قبل حوالي سنة في لقاءه مع مسؤولين صينيين رفيعي المستوى أن المبادرة تواجه تحديات بسبب البيئة الاقتصادية العالمية. وعلى الرغم من عدم توقع دفن المبادرة الا أن هناك محاولات لإعادة تقويمها جدياً في ضوء ما يواجهه الاقتصاد العالمي من جهة والاقتصاد الصيني من جهة أخرى.
زيارة الرئيس
ذلك هو ما جعل السعودية في كل بيناتها واتفاقاتها الخاصة بزيارة الرئيس الصيني تتجنب القول مباشرة أن هذه الاتفاقات هي جزء من طريق الحرير بل الإشارة بدلاً من ذلك الى أن هذه الاتفاقات الاقتصادية تستهدف (الموائمة) بين رؤية السعودية 2030 ومبادرة الحزام والطريق.
أي أن الأساس في هذه الاتفاقية هو رؤية السعودية لدورها ومصالحها ومستقبلها وليس المبادرة بحد ذاتها، عند هذه النقطة يجب التوسع أكثر في طريقة رؤية السعودية للدور الصيني ومدى موائمته لاحتياجاتها، وهو أنموذج يمكن للعراق تبنيه في التعامل مع الصين بخاصة في ظل انقسام الرأي العام العراقي الى قسمين متناقضين فيما يخص دور الصين في العراق.
اضف تعليق