لم تكن زيارة الرئيس الصيني الأخيرة للسعودية مجرد محطة في طريق العلاقات الاستراتيجية الصينية-الخليجية والذي بوشر بتأسيسه بهدوء وبعيداً عن الضجيج منذ عدة سنوات. هذا الطريق هو الذي جعل منطقة الخليج العربي تقفز في أهميتها للصين لتضع قدماً قوية ضمن أعلى 10 شركاء تجاريين لها...

لم تكن زيارة الرئيس الصيني الأخيرة للسعودية مجرد محطة في طريق العلاقات الاستراتيجية الصينية-الخليجية والذي بوشر بتأسيسه بهدوء وبعيداً عن الضجيج منذ عدة سنوات. هذا الطريق هو الذي جعل منطقة الخليج العربي تقفز في أهميتها للصين لتضع قدماً قوية ضمن أعلى 10 شركاء تجاريين لها.

فقد أقترب حجم التجارة مع دول الخليج من حاجز المئتي مليار دولار سنوياً الآن بحيث باتت الصين أكبر شريك تجاري للسعودية (76 مليار دولار سنوياً)، في حين أقترب حجم التبادل التجاري مع الأمارات من 65 مليار دولارأ مع هذا فأن الزيارة الحالية للرئيس الصيني كما يبدو تدشن مرحلةً تتضاعف فيها سرعة قطار العلاقات وتشهد نقلةً نوعيةً من الصعيد الاقتصادي الى الشراكة الاستراتيجية متعددة الأطر. ولم تقتصر مؤشرات هذه النقلة النوعية في مستوى العلاقات على مظاهر الاستقبال للرئيس الصيني حيث أستقبله وزير الخارجية في المطار برفقة أمير الرياض في الوقت الذي لم يكن وزير الخارجية السعودي حاضراً عند استقبال الرئيس الأمريكي بايدن في زيارته الأخيرة للرياض.

ولا على العرض الجوي الذي رافق طائرة الرئيس الصيني أو طريقة استقباله في الديوان الملكي. ولم تقتصر أيضاً على حجم الاتفاقيات التي وقعت بين السعودية والصين والتيكانت اتفاقية الشراكة الاستراتيجية في مقدمتها. بل ولا حتى على القمة العربية الصينية التي سيعقدها الرئيس الصيني في الرياض مع مختلف قادة المنطقة بشكل يفوق حتى ما حصل مع ترامب من قبل. أن أهم مؤشرات هذه المرحلة الجديدة يتمثل بمؤشرين أحدهما على الجانب السعودي والآخر على الجانب الصيني.

فعلى الجانب السعودي ستضيف هذه الزيارة تعقيدات أكبر على العلاقات السعودية الأمريكية بخاصة بعد أن حذر نائب وزير الدفاع الأمريكي دول المنطقة قبل أقل من شهر في مؤتمر المنامة بالبحرين من مغبة اقامة علاقات وثيقة جدا مع الصين، وكذلك جولة وفد وزارة الخارجية الأمريكي في اسرائيل والأردن والبحرين الأسبوع الماضي والتي أكد فيها أيضاً على النقطة ذاتها. هذا دون أن ننسى العلاقات المتوترة أصلاً بين السعودية وأمريكا في أعقاب رفض السعودية الاستجابة لطلب الرئيس بايدن بتخفيض أسعار النفط.

أما على الجانب الصيني فأن هذه الزيارة تأتي بعد أن أمّن الرئيس الصيني انتخابه لدورة رئاسية ثالثة من قبل مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني الأخير والذي أكد الصلاحيات الواسعة وشبه المطلقة لرئيسه. كما أن الزيارة تأتي في أعقاب تراجع اقتصادي واضح للصين بسبب تبعات الجائحة وعواقبها ليس فقط على الاقتصاد بل المجتمع الصيني وما شابته من اضطرابات ،ومحاولة الصين العودة بسرعة الى مستويات تنمية ما قبل كورونا.

شريك استراتيجي

ولنبدأ بالجانب السعودي. فعلى الرغم من أنه لا توجد اشارات حقيقية على أن السعودية ستتخلى عن شريكها الاستراتيجي التاريخي (أمريكا) ألا أن كل ما جرى يوحي بمرحلة استراتيجية جديدة تحررت فيها السعودية ودول الخليج الأخرى كالأمارات وقطر من دور التابع الى دور الصانع للاستراتيجية الشاملة، وليس فقط الاقتصادية، في منطقتنا.

ان أهم ما يمكن تمييزه بوضوح هنا في دور الصانع هو استفادته من تجربته التاريخية مع أمريكا أولاً، وأدراكه للمتغيرات المحلية والعالمية ثانياً. فقد أدركت السعودية أن ما يحرك أمريكا دائماً هو مصالحها وليس مصالح شركاؤها. كما أن هذه المصالح الاستراتيجية الأميركية، وعلى الرغم من تأثرها بالسياسات الحزبية لمن يحكم البيت الأبيض ألا أنها في النهاية تقرَر على أساس مؤسسي يبدو أنه حسم أمره بخصوص دور منطقة الخليج العربي وأهميتها بالنسبة لأمريكا.

فخلال ثلاث حقب متتالية تعاقب فيها الديمقراطيون والجمهوريون على البيت الأبيض، بدأت بادارة أوباما ثم ترامب وأخيراً بايدن ظلت العلاقات الأميركية الخليجية تعاني من نزعتي التعالي والتجاهل. فقد تعاملت الادارات المتعاقبة مع دول الخليج بتعالي بلغ أقصاه في مرحلة ترامب الذي أحرج السعودية بالذات بالكثير من تصريحاته وتصرفاته.

ولا يمكن هنا نسيان صورة ترامب بجانب الأمير محمد بن سلمان وهو (ترامب) ممسكا بانموذج للمعدات العسكرية الأميركية التي سيشريها السعوديون بحوالي نصف تريليون دولار قائلاً ”أن السعودية دولة ثرية وستشاركنا في ثروتها”!!

لم يحرج ترامب بطريقة حديثه وتصرفاته تلك الأمير الشاب فقط بل أحرج الكبرياء السعودي كله. أما التجاهل، فقد تجسد بالفراغ الذي تركته أدارة أوباما (ومن أعقبها) في المنطقة والذي أدى لكوارث استراتيجية (بالنسبة لدول الخليج) مثل التوسع الايراني، وظهور داعش، والربيع العربي، والثورة السورية، وتهديد الملاحة في الخليج العربي.

وكان تجاهل أميركا للقلق الأمني السعودي على حدودها اليمنية، وضعف رد الفعل الأميركي على مهاجمة الحوثيين لمصفى أرامكو، وأخيراً رفع الحوثيين من قائمة الارهاب الأميركية في عهد بايدن هو القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة للسعودية.

لقد أدرك السعوديون ومعهم الاماراتيون أن أميركا لم تعد الشريك الراعي الذي يمكنه حماية مصالحها كما حصل أبان غزو العراق للكويت وحرب الخليج الثانية. فاذا لم تعد أميركا قادرة على تلبية الاحتياجات والهواجس الأمنية الخليجية وبخاصة السعودية، فلماذا عليهم مراعاة مصالح أميركا الاستراتيجية في المنطقة؟ يجب التنبيه هنا الى أنني أحلل الأمور من وجهة النظر السعودية وليس الآخرين. ولاستكمال التحليل فلا بد من التعرف على أهم المتغيرات المحلية والاقليمية والدولية التي جعلت السعودية تقود هذه النزعة المتمردة علي سياسة القطب الواحد في منطقة الخليج العربي.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق