ربما كان ذلك سبيلا للنجاح، بل إلى تخطي حدوده والوصول إلى مسيرة إعجازية على مستوى الإنجازات والأرقام والألقاب، ولكن هل وصل ذلك بصاروخ ماديرا إلى السعادة في نهايات رحلته مع الكرة؟ وهل كانت هذه المزايا حقيقية أصلا على المستوى الإنساني بعيدا عن المهني؟ يبدو أنها لم تكن كذلك...
بقلم: يوسف حمدي
يجلس كريستيانو رونالدو واضعا رأسه بين ركبتيه، تدور في ذهنه مئات الأسئلة المرهقة، وهو يتلقى ضربة بعد الأخرى. تارة ترفضه أندية أوروبا، وتارة يغيب عن دوري الأبطال، قبل أن يتحول إلى لاعب بديل، ثم يُعاقب ليتدرب وحده مع فريق الرديف، وحول ذلك يسخر الملايين منه، ولا يعبأ أحد بتلك المرارة التي يشعر بها وحده. (1)(2)(3)
يرفع الدون رأسه وينظر إلى الأمام، يرى الصورة ضبابية أكثر من أي وقت مضى، ويلمح النهاية تقترب على عكس ما رسمها، لقد خسر التحدي الأخير فقط، ولكنه يشعر أنه خسر كل شيء، فهو الرجل الذي اعتاد أن ينظر إلى الأمام فقط، ولا يعبأ بما قد تحقق سلفا، لأنه جائع للمزيد دائما.
مشهد أخير، كريستيانو ينظر في مرآته، يلمح دموعا في عينيه، ولا يستطيع إيقافها، يدرك أخيرا أنه أخطأ في تقدير نفسه كآلة تتحمل الضغط دائما، للحظة أدرك حاجته إلى البكاء والانهيار بصفته إنسانا، وليس بصفته أفضل لاعب في التاريخ وأفضل لاعب آخر 20 سنة كما اعتاد تعريف نفسه. (4)(5)
بين النجاح والسعادة
ما سبق لم يكن إلا مشهدا تخيليا لرجل اعتاد طوال مسيرته حصد الإشادات كونه شخصا خارقا يمتلك الشغف، لديه جوع دائم للمزيد ولا يمل من التدرب والعرق في سبيل ذلك، يحب وضع نفسه دائما تحت الضغط ليتحرك إلى الأمام، يتحدى جميع الكارهين وينتصر عليهم، قبل أن يصرخ في وجوههم صرخته الشهيرة محتفلا بانضمامهم إلى قائمة ضحاياه.
ربما كان ذلك سبيلا للنجاح، بل إلى تخطي حدوده والوصول إلى مسيرة إعجازية على مستوى الإنجازات والأرقام والألقاب الجماعية والفردية، ولكن على جانب آخر، هل وصل ذلك بصاروخ ماديرا إلى السعادة في نهايات رحلته مع الكرة؟ وهل كانت هذه المزايا حقيقية أصلا على المستوى الإنساني بعيدا عن المهني؟ في حقيقة الأمر، يبدو أنها لم تكن كذلك.
قبل بداية موسم 2023، التقى رونالدو بالطبيب النفسي الكندي الشهير جوردان بيترسون، في جلسة ثنائية استمرت لمدة ساعتين، وذلك بعد أن شاهد له الدون مقاطع فيديو وقرأ له كتابا، وتأكد أنه يستطيع مساعدته في تلك الفترة التي يمر بها. (6) بيترسون لم يُفصح عن كل شيء حول الجلسة بطبيعة الحال، نظرا لكونها جلسة تجمع بين طبيب وحالة، حتى لو كانت حالة لواحد من أشهر الشخصيات على الكوكب، ولكنها في النهاية يجب أن تحتفظ بخصوصيتها رغم الفضول الذي يعتري الجميع لمعرفة ما دار معها بالتحديد.
ورغم ذلك، لمَّح بيترسون بعبارات خجولة لمعاناة كريستيانو من حالة اكتئاب بسبب وفاة ابنه الرضيع قبل أشهر، وكذلك لصعوبة وضعه الحالي مع كرة القدم، وهو ما يفتح آفاقا عدة للتساؤل حول الوضع الذي يصيب أحد أفضل اللاعبين في تاريخ اللعبة بالاكتئاب وهو يطرق باب عامه الثامن والثلاثين. (7)
خريف العمر
لعلك تسأل نفسك ما الذي يجعل رجلا كرونالدو يعاني هكذا بسبب عدم قدرته على إيجاد نادٍ يلعب في دوري أبطال أوروبا في عمره الحالي، تلك البطولة التي يعد هو هدافها التاريخي وأكثر مَن فاز بها لاعبا، أو بسبب جلوسه على دكة البدلاء في بعض المباريات مع مانشستر يونايتد بعد وصوله إلى الهدف رقم 700 له مع الأندية، وما الذي من الممكن أن يتحقق أكثر من تلك الأرقام الإعجازية لو لعب أساسيا أو شارك في دوري الأبطال؟ (8)(9)
في الحقيقة، الإجابة عن ذلك السؤال سهلة للغاية خاصة بالنسبة لعشاق الدون، وهي ببساطة أن الرجل لا يشبع ويبحث عن المزيد دوما كونه صاحب عقلية انتصارية، وشغف لا ينتهي، ونظرة متطلعة إلى الأمام مهما راكم من إنجازات خلفه.
هناك أيضا إجابة أخرى صرَّح بها رونالدو نفسه في نهاية الفيلم الذي وثَّق به مسيرته وأُنتج عام 2015؛ وهي أنه يعشق وضع نفسه دائما تحت الضغط، وفي تلك اللحظة التي سينتهي فيها الضغط، سيعلن تعليق حذائه، ونهاية مسيرته مع كرة القدم. (10)
رونالدو وعشاقه يعتقدون دائما أن هناك أشخاصا أقوى من الحياة برُمَّتها، بإمكانهم دائما أن يكونوا الأفضل تحت أي ظروف، كما يمكنهم الانتصار على كل شيء، وعلى رأسهم يأتي نجمهم المفضل بالطبع. لذلك، يُروِّج الدون لتلك النظرية دوما، ويحتفي بها مشجعوه، وكلهم ثقة أنه مع كل أزمة سيعود أقوى ويُخرِس الجميع ويُعلن انتصاره في فصل جديد من الحكاية المليئة بالانتصارات والكارهين الذين ينتصر عليهم.
ولكن يبدو أن رونالدو ومحبيه لم يحسبوا حساب اليوم الذي سيكون فيه الضغط أكبر منه، كونه -ويا للمفاجأة- إنسانا مثلهم، مهما حاول الترويج لأنه آلة لا تتوقف. هو في النهاية إنسان له حدود حتى لو ظن غير ذلك، وتتحكم فيه المشاعر التي يعتقد أن باستطاعته تنحيتها جانبا والمُضي في طريقه دون تأثر بما يحدث حوله. لكن مهما طال الأمد، ستأتي قشة لتقصم ظهرك، وتحديدا في ذلك الوقت الذي يخونك فيه الجسد والعمر وقطار الزمن، لأنك -ويا للمفاجأة مرة ثانية- مجرد إنسان.
سقوط نظرية رونالدو في الغرب
لحظة الشك تلك كانت كفيلة بإسقاط النظرية التي عاش رونالدو عمره مروجا لها، وبقدر ما ساعده الاستمتاع بصافرات الاستهجان وهجوم الكارهين والضغط الذي يضع نفسه في دوامته على تحقيق أحلامه وصناعة مسيرة استثنائية، بقدر ما انقلب عليه سلاحه، ولم يتأذَ منه أحد سواه، وحُكم عليه بالمعاناة وحده دون شفقة في خواتيم رحلته.
دون شفقة لأنه لا أحد بات يُصدِّق أن رونالدو بشر يمكنه أن يعاني بفعل تلك النظرية التي روَّج لها بنفسه. باتت لحظة السقوط غير مفهومة أصلا لأن كريستيانو لا يسقط، المحبون قبل الكارهين لم يشعروا بالشفقة بمعناها الحقيقي، بقدر ما وضعوا المزيد من الضغط على أكتافه حتى يعود ويُخرِس الأفواه وينتصر كعادته، فرونالدو يجب أن ينتصر دائما في رواية أحدهم، بل في روايتهم جميعا.
هذه النظرية قادرة على تقديم المزيد من البشر الناجحين التعساء، الذين يتناسب حجم تفوقهم وإعجازية قصصهم مع حجم تعاستهم، ورغم التعاسة التي تظهر في نهاية الحكاية، فإن ذلك النموذج يُحتفَى به ويُروَّج له في كل مرة حتى مع النهاية المأساوية له، سواء لمَن استطاعوا إكمال الرحلة قبل أن تنقلب عليهم الحياة، أو مَن سقطوا منذ الجولات الأولى، لأنهم لم يكونوا أقوياء بما يكفي لتحمُّل هذا الكم المؤذي من الضغط النفسي. ومع الأسف، فهذه المشكلة لا تخص رونالدو وحده، نظرا لأنها أكبر بكثير من الرياضة وكرة القدم.
شبح الرأسمالية
هنا نحتاج إلى تخطي حدود كرة القدم، لأننا بعد ربط الخيوط ببعضها، اكتشفنا أن حكاية رونالدو مشتقة من مبدأ يحكم الحياة بأكملها، قانون ضمني ينزع عن البشر إنسانيتهم، ويُجبرهم على الركض دوما بلا توقف إلى أن يسقطوا أرضا، ليجدوا أنفسهم مطالبين بالنهوض مجددا وتكرار الأمر في دائرة مفرغة لا تنتهي أبدا.
تخيَّل أن الرجل الذي يتقاضى 500 ألف جنيه إسترليني أسبوعيا، من كرة القدم فقط، فضلا عن استثماراته الخاصة، وتخطت ثروته المليار دولار، فضلا عن قدرته على جني الملايين فقط مقابل صور ينشرها عبر حسابه الشخصي بموقع إنستغرام، يقع فريسة للشيء نفسه الذي يفترض الموظف الذي بالكاد يحصل على قوت يومه. (11)(12)(13)
إنها الرأسمالية يا عزيزي، تلك التي تُروِّج دائما لنموذج الرجل الذي يعمل دائما، ويُحوِّل كل لحظاته إلى فرص محتملة لزيادة الأموال، الشخص الذي لا يعترف بالراحة أو البحث عن السعادة والاسترخاء، بل يضع نصب عينيه الاستزادة من النجاح بأن "يربط نفسه في ساقية" ولا يتوقف أبدا، ما دامت هناك فرصة لحصد المزيد.
الفارق الوحيد أن كريستيانو رونالدو اختار دخول الدوامة بنفسه، عكس الموظف المسكين الذي يدخلها مُجبرا، ورغم أن الدون يحصد جزءا ضخما من هذه الأموال، فإن ثراءه لم يمنع تحوُّله إلى آلة تدر الأرباح للمؤسسات أيضا، قصته تلك تجعله واجهة إعلانية لا تُقاوم، ومجرد ذكر اسمه في أي سياق بات كافيا لزيادة الأرباح للجميع، لذلك فالكل مستفيد من الوضع الذي يعيشه الدون، ومن مصلحة الجميع أن يستمر هكذا ليجلبوا من ورائه الملايين، ويجلبها هو معهم، دون اكتراث بأي معانٍ أخرى للحياة.
تعبٌ كلها الحياة يا صديقي، وهذه ليست دعوة للاستلقاء على سريرك حتى لا تصاب بالتعاسة، ولكن هناك شعرة بين الكد والسعي والتحمل، وبين الضغط الدائم الذي يسرق العمر حتى وإن منحك نشوة النجاح، حتى وإن جعلك مليارديرا، سيظل قادرا في أي لحظة على أن يُسقطك أرضا، وسيظل ينهش روحك بمرور الوقت دون أن تشعر، سيقصم ظهرك وإن طال الأمد، سواء كنت موظفا بسيطا تكافح من أجل البقاء، أو كنت كريستيانو رونالدو نفسه. لذلك، ربما تكون في حاجة إلى الوقوف أمام المرآة من حين إلى آخر لتنظر إلى ملامحك وتكرر: أنا لست آلة، أنا إنسان، مجرد إنسان!
اضف تعليق