إن ثقافة التبرير للأخطاء في مناهج التفكير الاجتماعي والسياسي هو الذي يضع كلمة الحق أرضاً والانطلاق بسرعة مجموعة نحو المناصب والمكاسب، وتبقى المطالبات بالتغيير والإصلاح مجرد شعارات يتفق واضعوها ومن يقرأها من الناس على أنها مجرد مسكنات للألم المبرح من الحرمان والضنك...
"أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".
رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم
كلمة الرفض للظلم والجور، وكلمة المطالبة بالحقوق المشروعة، وأيضاً الكلمة الطيبة بين أوساط المجتمع، كلها؛ مما يؤسس لكيان اجتماعي وسياسي متماسك قادر على التفكير بالنهوض والنمو.
تارة تصدر هذه الكلمة على شكل مقال صحفي لكاتب يجلس خلف مكتبه في البيت او مكان عمله مستمتعاً بالهدوء التام، والراحة والأمان، وتارة تصدر على شكل لافتات تعلّق في الشوارع، وتارة أخرى من على المنابر في مناسبات مختلفة، وحتى تكون ضمن حراك جماهيري سلمي مُصان قانونياً وأمنياً، ولكن! قد تكون ايضاً على شكل تحدٍ ومواجهة تكلف اصحابها الكثير، منها؛ طرد الكاتب وقمع الخطيب، أو تهديد المؤسسة الاعلامية والثقافية بقطع الامداد المالي، وابتزازها قانونياً وأمنياً فتتدخل الشجاعة بقوة لحسم الموقف نهائياً، فإما أن تاخذ هذه الكلمة مجراها في الواقع الاجتماعي والسياسي بحزم وقوة، وإما أن تقتل في الطريق فتكون شهيدة وشاهدة على الواقع الفاسد المطلوب تغييره.
أيّة كلمة؟!
نحن نرجو دائماً قول الحق في قضايا محورية مثل؛ الحرية، والعدالة، والمساواة، والأخلاق، وكل ما يعبر عن ضمير الأمة ويعكس هويتها وانتمائها، فعندما تقرأ او تسمع كلمة الحق هذه تستشعر بكل حواسها أنها حاضرة في خط المواجهة الى جانب الرجال الأشاوس و الأبطال ممن يحملون هذه الكلمة مع قلوبهم على أكفهم.
ولعل هذا يفسر لنا جانباً من فلسفة النهضة الحسينية، وأبعاد كلمة الحق التي أطلقها الامام الحسين، عليه السلام، بوجه السلطان الجائر في حينه، والتي تحولت بشجاعة المواجهة الى إيقونة للحرية والكرامة الانسانية للبشرية جمعاء، وليس فقط للمسلمين وللموالين أهل بيت رسول الله. فالجميع يأتون الى كربلاء المقدسة، من مختلف الديانات والطوائف، يمجدّون بالامام الحسين، و بالكلمة التي استشهد من أجل إبقائها حيّة في نفوس أهل العالم.
في العراق –على سبيل المثال لا الحصر- ما هي مواصفات كلمة الحق؟
الجميع يتحدثون عن محاربة الفساد والامتعاض من المحاصصة السياسية، و هدر الثروات والكرامات والقائمة تطول، مما يعدها المتحدثون كلمة الحق التي تستحق كل اشكال الاحتجاج والصدام، بيد أن هذه الكلمة نجدها يوماً غائبة عن السلطان الجائر في ظروف معينة، ثم تظهر فجأة في ظروف معينة أخرى، وربما تغيب مرة اخرى حسب الظروف والحاجة!
والسبب في هذا –كما يبدو- مردّه الى فقدان القاعدة الثابتة التي ينطلق منها دعاة التغيير والإصلاح، لذا صار من السهل إظهار كلمة الحق في الساحة برداء "الرأي"، او "الرؤية"، أو "الموقف"، أو "البديل"، وكلها ربما تصدر من عقول بدافع الحرص والإخلاص للشعب والوطن، بيد أنها تبقى موسومة بالشخصانية، وما اجتهد اليه صاحبها، وهو مشكور على كل حال، ولن يكون ملاماً اذا طرأ التعديل على كل تلك الآراء والرؤى والمواقف حسب الظروف، علاوة على القول بأن الانسان ليس معصوماً عن الخطأ.
بيد أن كلمة الحق لها قاعدة مبدأئية وجذور في القيم السامية لا تقبل التغيير او التحوير مهما حصل، لأن ببساطة؛ هي تعبير عن قيمة الانسان وغايته من الوجود، ومصيره في الحياة، بغض النظر عمّن يقبل بها او يرفضها، فالسلطان الجائر ليس وحده من يخشاها على منصبه ومكاسبه، بل الناس ايضاً ربما يشعروا بعدم الارتياح او عدم التفهّم، او حتى بالتقاطع مع بعض المصالح، لاسيما لدى الشريحة الثرية في المجتمع التي ربما تشعر أن هذه الكلمة تستهدف منهج تفكيرهم وطريقة حصولهم على الثروة.
فالنُصح والإرشاد والتذكير، تُعد كلمات حق في أوساط المجتمع الواعي والمتماسك والباحث دائماً عن نقاط ضعفه وثغراته لمعالجتها فوراً، وفي القرآن الكريم جاء وصف الأمة الناجية من الخسران بأنها {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، يبقى من يتفاعل ويستجيب عمّن يعارض، ولكن؛ هذه المعارضة والمقاطعة لن تضر الحق شيئاً، فهي باقية ثابتة في مكانها كالشمس الساطعة، بينما المعارضون هم من يتعرضون للخسارة الفادحة حال تنكرهم لهذه الكلمة الصادقة والبناءة لأنهم سيرضون بكلمة الباطل الصادرة من السلطان الجائر، ولات حين مندم.
واذا أردنا البحث عن كلمة الحق في عراق اليوم، نجد أنها –في معظم الاحيان- خلف غمامات النكوص والخذلان مخافة المواجهة مع السلطان الجائر، حتى اصبحنا نقرأ عمن يكرّس الأمر الواقع السيئ؛ اجتماعياً وسياسياً، وأن المجتمع لا تهمه النصيحة والإرشاد، وفي أحسن الافتراضات؛ استصعاب التغيير بالإساس، أما الدولة فهي مسكونة بالفساد والتبعية، فلابد من المحاصصة ومشاركة الجميع في الحكم، ولا حاجة لنا بشيء اسمه؛ المعارضة السياسية الموجودة في البلدان الديمقراطية بالعالم.
إن ثقافة التبرير للأخطاء في مناهج التفكير الاجتماعي والسياسي هو الذي يضع كلمة الحق أرضاً والانطلاق بسرعة مجموعة نحو المناصب والمكاسب، وتبقى المطالبات بالتغيير والإصلاح مجرد شعارات يتفق واضعوها ومن يقرأها من الناس على أنها مجرد مسكنات للألم المبرح من الحرمان والضنك.
اضف تعليق