إذا اعتمدنا سياسة اللقاء المباشر، والاستماع المباشر لبعضنا البعض مهما كانت اختلافاتنا وتبايناتنا، فإننا سنتمكن من أن نفهم بعضنا البعض، وندرك حجم المساحات المشتركة بيننا التي تحتاج إلى تجذير وتعزيز وتفعيل.. لأن اللقاءات الفكرية والاجتماعية المباشرة، هي التي تمزق الأوهام، وهي التي تزيل الالتباسات الوافدة إلينا من لحظات الصراع...
في سياق الجفاء والتباعد وغياب حالات التواصل والتلاقي والتفاهم بين المختلفين والمتغايرين، تبرز نزعات صناعة الأوهام تجاه الآخر المختلف والمغاير، لتبرير القطيعة معه، وعدم التواصل الإنساني والاجتماعي والثقافي مع محيطه وفضائه.. وهكذا يدخل الجميع في دوامة الجهل المتبادل، والذي يتغذى باستمرار على صناعة الأوهام تجاه بعضنا البعض، لتسويغ حالة التباعد أو العداء بين إنسان وآخر، أو بين مكوّن من مكونات المجتمع مع بقية المكونات.. فجميعنا يسجن نفسه ومحيطه في أوهام تجاه الآخر، تبرر للجميع استمرار حالة الجفاء وسيادة لغة الاتهام، والاتهام المضاد بين جميع الأفرقاء والأطراف..
فالاختلاف الديني أو المذهبي أو القومي أو العرقي أو القبلي، بدل أن يقود إلى بناء الجسور للتعارف والتواصل وإثراء الحياة الإنسانية، يتحول بسبب السجون المعرفية والثقافية التي نعيش فيها تجاه بعضنا البعض، إلى مبرر ومسوغ للجفاء والتباعد كحد أدنى أو السجالات والصراعات والنزاعات التي تأخذ أشكالا وصورا مختلفة كحد أعلى.. وكل طرف يعيش في بيئته الخاصة، ويقوم ببناء تصوره حول الآخر من خلال مسبقاته التاريخية أو الفكرية، أو ما يكتبه أهل بيئته تجاه الآخر المختلف والمغاير.. وفي أغلب الأحيان تكون هذه الكتابة، خاضعة لطبيعة العلاقة القائمة بين الذات والآخر.. فإذا كانت العلاقة حسنة، كانت الكتابة عن الآخر كذلك حسنة وإيجابية.. أما إذا كانت العلاقة سيئة وتشوبها مشكلات وأزمات، فإن الكتابة ستكون كذلك.. أي لتعبئة الجمهور الخاص ضد الآخر.. وفي حالة التعبئة يتم التطاول على الحقائق التاريخية والفكرية، وتندفع الأمور باتجاه شيطنة الآخر المختلف مهما كانت دائرة الاختلاف..
لهذا فإن استمرار هذه الحالة، سيوسع من حالة الجفاء بين المختلفين، ويمدها باستمرار بأسباب الاشتعال والخصومة..
أما إذا اعتمدنا سياسة اللقاء المباشر، والاستماع المباشر لبعضنا البعض مهما كانت اختلافاتنا وتبايناتنا، فإننا سنتمكن من أن نفهم بعضنا البعض، وندرك حجم المساحات المشتركة بيننا التي تحتاج إلى تجذير وتعزيز وتفعيل..لأن اللقاءات الفكرية والاجتماعية المباشرة، هي التي تمزق الأوهام، وهي التي تزيل الالتباسات الوافدة إلينا من لحظات الصراع والتباين الحاد.. والأهم من كل هذا فإن اللقاءات المباشرة بين المختلفين تكشف عن الوجه الإنساني لكل طرف.. وهو وجه نستطيع أن نتجاوز من خلال قيمه ومفاهيمه، الكثير من نقاط التوتر أو القطيعة..
وحينما نتحدث عن ضرورة اللقاء والتواصل المباشر بين المختلفين، فإننا في ذات الوقت ندرك أن المطلوب من اللقاء والتواصل المباشر، ليس الاتفاق والتطابق التام في وجهات النظر، وإنما إدراك معنى الاختلاف ومآلاته المعرفية والوجودية..
و(إن وظيفة هذه اللقاءات هي التعرف على الاختلاف، وتعلّم العيش معه، من خلال وعي الإنسان المختلف والاعتراف بآماله وآلامه، بتطلعاته وأشواقه، بأسلوبه في النظر وطريقته في مقاربة المشكلات، وتحليل الوقائع.. إن إدراك هذه الحالة الإنسانية والإحساس بها، وما يخلقه ذلك من تعاطف، يعزز العيش المشترك، أكثر مما تعززه أية فكرة أو فلسفة أو أيدلوجيا.. نستطيع في هذه المناخات أن نحس، قبل أن نفهم، كيف أن وجود المختلف غنى وأن غيابه حرمان).. (راجع كتاب عقائد وتساؤلات للعبور معا إلى آفاق المرتجى،ص14)..
ومن خلال تجاربي الفكرية والاجتماعية، في اللقاء مع المختلف، والتواصل مع المغاير، أستطيع القول وبجزم إن اللقاءات المباشرة، هي أغنى بكثير من قراءة النصوص حول الآخر.. وإن التواصل المباشر هو القادر على تبديد الكثير من الهواجس وإزالة سوء الفهم سواء حول أحداث ماضية أو أحوال معاصرة.
وإننا جميعا لن نتمكن من طمس التباينات والاختلافات، ولكن بإمكاننا أن نصيغ لأنفسنا من خلال اللقاء والتواصل رؤية، تجنب أوطاننا ومجتمعاتنا احتمالات الصراع والصدام لاعتبارات مذهبية أو قبلية أو ما أشبه ذلك..
فالإنسان يكتشف معنى الاختلاف وحدوده، حينما يلتقي مع المختلف ويتواصل معه بشكل مباشر..
كما أن إدراك طبيعة المشكلات التي تواجه كل طرف، لن يتأتى بدون التواصل المباشر، والاستماع المباشر لبعضنا البعض.. فهو الطريقة الوحيدة للخروج من السجن المعرفي الذي وضع كل طرف نفسه فيه..
أسوق هذا الكلام من أجل تعزيز المبادرة الأهلية للتواصل الوطني.. فهي مبادرة رائدة، وتوفر باستمرار إمكانية اللقاء والتواصل بين أبناء الوطن الواحد..
وإن الاختلافات الموجودة في مجتمعنا، ليست حائلا دون التواصل، وليست سببا لإدامة مايشبه القطيعة والجفاء.. بل على العكس من ذلك تماما.. حيث إن وجود الاختلافات ينبغي أن يقودنا جميعا من مختلف مواقعنا إلى تأسيس المبادرات والقيام بالخطوات المطلوبة، لتجسير العلاقة بين تعبيرات وأطياف المجتمع والوطن..
ولا ريب أننا في كل المحافظات والمناطق نحتاج إلى هيئة أو لجنة أو مبادرة أهلية للتواصل الوطني..
فالمطلوب هو أن نتبادل كمواطنين المعارف والحوار، حتى نتجاوز حالة العزلة أو التصورات الخاطئة تجاه بعضنا البعض..
فالتلاحم الاجتماعي والوطني، لا يبنيان إلا بمعرفة عميقة ببعضنا البعض.. ولن نتمكن من خلق المعرفة العميقة ببعضنا البعض، إلا بالتواصل الثقافي والاجتماعي بين مختلف الأطراف والمكونات.. ولن يتحقق التواصل بفعالية بدون وجود إرادة مجتمعية ومبادرات أهلية تستهدف تجسير العلاقة وإزالة الالتباسات وتفعيل المساحات المشتركة بين أبناء الوطن الواحد.. ووجود المشكلات أو التوترات مهما كان نوعها أو حجمها، ليس مبررا لاستمرار الجفاء والقطيعة.. بل على العكس من ذلك تماما.. حيث إن وجود المشكلات والأزمات، ينبغي أن يقودنا للإسراع في التواصل، لمحاصرتها، والبحث عن حلول ممكنة لها..
فالنار الطائفية أو القبلية أو العرقية، لن تُطفأ إلا بحقائق التواصل والتفاهم بين مختلف الأطراف والمكونات.. ووجود أصوات نابذة أو رافضة لهذا الخيار، لا يبرر لأهل خيار التلاقي والتواصل الانكفاء والتراجع عن القيام بخطوات ومبادرات تواصلية..
ولا يمكن تجنب الصدام والنزاع مع الآخر المختلف أو المغاير، إلا بالحوار والتفاهم معه.. ومن يبحث عن وسيلة أخرى لذلك دون هذه الوسيلة، فإنه سيصدم بحقائق الأمور التي تقول : وحده الحوار والتواصل هو الذي يبني التفاهم على أسس صلبة تحول دون انخراط البعض أو الجميع في حلبة الصدام وخلق التوترات بعناوين ويافطات مختلفة..
وأسئلتنا الحقيقية تجاه بعضنا البعض، لن تثمر إلا بالتواصل الخلاق بين مختلف الأطياف والأطراف..
إننا نعيش مع بعضنا البعض، وتتداخل مصالحنا مع بعضنا البعض، وتواجهنا مشكلات وأزمات وتحديات مشتركة.. ولا مناص لنا إذا أردنا الأمن والاستقرار والحفاظ على المكاسب إلا العبور إلى بعضنا البعض.. العبور الذي يزيد من فهمنا ومعرفتنا إلى بعضنا البعض، بعيدا عن الدوغمائية التي قد تنتاب الجميع.. وإننا لن نتمكن على الصعيد الاجتماعي والثقافي، من إنهاء أو تفكيك الرؤى النمطية تجاه بعضنا البعض، بدون اللقاء المباشر والتواصل المستديم الذي يوفر للجميع إمكانية التعرف المباشر على الجميع..
صحيح أن التواصل ليس حلًا سحرياً للمشكلات والأزمات، ولكنه الخطوة الأولى في مشروع تفكيك الرؤى النمطية، والتعرف بدون زيادة أو نقيصة على القناعات المتبادلة، وتوضيح بعض الالتباسات، التي تزيد من الجفاء أو التوترات بين الفينة والأخرى..
لأننا كعرب ومسلمين جميعا فشلنا في امتحان التعددية والقبول بحقائق ومقتضيات التنوع في الفضاء الاجتماعي والثقافي العربي والإسلامي..
وإن هذا الفشل ليس قدرنا المحتوم، بل هو وليد الخيارات المتبعة في طريقة التعامل مع هذه الحقيقة الثابتة والعميقة في وجودنا الإنساني والاجتماعي.. ولا سبيل أمامنا إلا إنهاء الأوهام المعشعشة في العقول والنفوس تبرر لنا استمرار حالة الجفاء والتباعد، وتوفر المناخ الاجتماعي والثقافي الذي يقبل بخيار القطيعة والمفاصلة الشعورية والاجتماعية.. وخطوات التواصل الأهلية، هي أحد الروافد المتميزة لإنجاز مطلب التلاحم الوطني والتضامن الاجتماعي، بعيدا عن كل نزعات النرجسية والإقصاء..
اضف تعليق