فعالم اليوم، لم يعد محكوماً بـ القطب الواحد المهيمن، وثمة قوى دولية، قديمة وناشئة، لديها ما لدى الولايات المتحدة في كثيرٍ من المجالات والحقول، ومثلما تضع الإدارات الأميركية مصالح شعبها وأمنها القومي في صدارة أولوياتها، فإن على هذه الإدارات أن تأخذ بنظر الاعتبار، أن للدول الحليفة، مصالح وحسابات...
تجد الولايات المتحدة صعوبة في "تصديق" حقيقة أن العالم يتغير، وأن القواعد التي حكمت علاقاتها مع كثرة من حلفائها من قبل، لم تعد صالحة اليوم، وقد ترتد بأوخم العواقب على هذه العلاقات من بعد... ما يحصل بين واشنطن والرياض، ليس سوى أحدث الأمثلة الدالّة على حجم التغيير الذي طرأ على منظومة العلاقات الدولية وقواعدها.
من وجهة نظر سعودية، مُضمرة في الغالب وصريحة في بعض الأحيان، فقد ولّى الزمن الذي انحكمت فيه العلاقات الثنائية بين البلدين بقاعدة "التابع والمتبوع"، وأن المملكة تسعى لإضفاء قدرٍ من الندّية على علاقاتها بحليفتها الاستراتيجية الكبرى، فعالم اليوم، لم يعد محكوماً بـ"القطب الواحد المهيمن"، وثمة قوى دولية، قديمة وناشئة، لديها ما لدى الولايات المتحدة في كثيرٍ من المجالات والحقول، ومثلما تضع الإدارات الأميركية مصالح شعبها وأمنها القومي في صدارة أولوياتها، فإن على هذه الإدارات أن تأخذ بنظر الاعتبار، أن للدول الحليفة، مصالح وحسابات قومية، يتعين أيضاً أخذها بنظر الاعتبار كذلك.
مثل هذا التطور، غير المفاجئ على أية حال، والممتد لبضع سنوات خلت، لا يخص السعودية وحدها، فثمة أصدقاء وحلفاء للولايات المتحدة في الخليج والعالم العربي وعلى الساحة الدولية، بما فيها الأوروبية، ترى أمراً مماثلاً، وتسعى في إضفاء قدرٍ أعلى من التوازن والاتزان في علاقاتها مع الدولة الأعظم... يحدث ذلك في دول ما زالت خاضعة لقبضة "اليمين الشعبوي" كالهند والبرازيل، مثلما يصح في دول اجتاحتها موجة "اليسار الوردي" كما في أميركا اللاتينية.
ولعله أمرٌ ذو دلالة، أن تتزامن هذه الموجة من التوتر في العلاقات الأميركية السعودية، مع زيارة نادرة لموسكو، وفي توقيت لافت، قام بها الرئيس الإماراتي للقاء بوتين، قيل إنها لتنسيق المواقف في إطار "أوبك +" بيد أنها تمحورت حول استعراض فرص قيام محمد بن زايد بواسطة بين روسيا والغرب لحل الأزمة الأوكرانية... كلا الدولتين، السعودية والإمارات، وإن كانتا ترفضان الاجتياح الروسي لأوكرانيا، إلا أنهما تفضلان النأي بنفسيهما عن الاصطفاف التلقائي خلف سياسة واشنطن والناتو، وتفضلان سياسة تقوم على "الحياد الاستراتيجي الإيجابي"، والتعبير لمسؤولين سعوديين كبار.
يخطئ من يظن، ولو لبرهة واحدة، أن الرياض بصدد "المقامرة" بعلاقاتها مع واشنطن، فهي تعلم أن الولايات المتحدة ما زالت، وستبقى حتى إشعار آخر، الدولة الأعظم في العالم، وهذا ما دفع كبار مسؤوليها للتأكيد مراراً وتكراراً، أن المملكة على عهد التحالف الممتد لثمانية عقود مع الولايات المتحدة، وأنها ملتزمة بالحفاظ على الطابع الاستثنائي والاستراتيجي لهذه العلاقات، ولكنها في المقابل، أخذت تضيق ذرعاً بالانتقادات الأميركية لبعض فصول سياستيها الداخلية والخارجية، وأنها لم تعد تقبل بـ"الإملاءات" عن أية جهة صدرت، وأن لديها خيارات وبدائل، تمكنها من إقامة علاقات أكثر توازناً مع واشنطن، وغيرها من الأقطاب الدولية، وما لا يبوح به ساسة المملكة، يتولى إعلاميّوها التصريح به، وأحياناً بلغة شديدة اللهجة.
أما من وجهة النظر الأميركية، فإن السعودية على رأس "أوبك +"، كان بمقدورها تعطيل أو إرجاء قرار خفض انتاج النفط بقيمة مليوني برميل يومياً... القرار وفر "شبكة أمان اقتصادية ومالية" لبوتين، هكذا فهمت واشنطن المسألة، والقرار في توقيته على مبعدة أقل من شهر من الانتخابات النصفية، شكل طعنة نجلاء لإدارة بايدن، التي تخوض معركة قاسية مع خصومها الجمهوريين، ليست في جوهرها سوى "بروفة" لما يمكن أن تكون عليه المعركة الانتخابية الرئاسية: 2024... ما هكذا يتصرف الأصدقاء حيال بعضهم البعض، هكذا تقول واشنطن، والشيء ذاته، سبق للرياض أن رددته في مناسبات عدة، وقفت فيها واشنطن بالضد من سياسات سعودية، أو تعاملت فيها ببرود ظاهر مع "تحديات أمنية كبرى" واجهتها المملكة، كما في العدوان على منشآت أرامكو قبل ثلاث سنوات.
السعودية لن تذهب بعيداً في التغريد خارج السرب الأميركي، فلديها منظومة مصالح لا يمكن لعاقل التفريط أو المقامرة بها... هي تعلم أن واشنطن تنتج أفضل الأسلحة في العالم، ولديها شبكة تبادلات تجارية واستثمارية لا يمكن التخلي عنها، وفوائضها المالية "الفلكية" مودعة لدى المصارف الأميركية، وفوق هذا وذاك، فإن الولايات المتحدة أكثر من غيرها، حتى لا نقول وحدها دون سواها، قادرة على توفير شبكة الأمان للمملكة في مواجهة خصوم وجيران طامعين.
من هذا المنطق، لا تكف المملكة عن التأكيد بأن قرار "أوبك +"، ليس قرارها المنفرد، بل قرار جماعي مؤيد من 23 دولة، فلماذا تُحمّل وحدها المسؤولية عنه، والرياض تنظر للقرار بوصفه اقتصادياً محضاً، محكوم بقواعد السوق وقوانين العرض والطلب، والأهم، أنها تنفي بالمطلق أن يكون قرار "أوبك +" قد جاء بطلب من بوتين وضغطٍ منه، أو بهدف مساعدته في حربه على أوكرانيا... لكن أحداً في واشنطن، "لا يشتري" هذه البضاعة، والخطاب الأميركي ما زال اتهامياً حاداً إن لجهة توصيف القرار وتفسيره ، أو لجهة دور السعودية في جعل تمريره أمراً ممكناً.
الولايات المتحدة بدورها، لا تستطيع أن تذهب حتى نهاية الشوط، في مراجعاتها لعلاقاتها مع الرياض، وفي ممارسة الضغوط عليها، رغم أنها تتوفر على أوراق قوية، كفيلة بخلق متاعب لا تُحتمل للمملكة... وإدارة بايدن إن استجابت لنداءات بعض أعضائها وأعضاء الكونغرس الأكثر تشدداً، ستكون قد أطلقت النار على قدميها، ودفعت المملكة إلى خيارات، لا ترغب بها ولا تشتهيها، وقد تتضرر بنتيجة هذه الإجراءات، مصالح وصناعات أميركية، ثم أن التصعيد ضد المملكة، يثير انقساماً حاداً في الداخل الأميركي، حيث يميل خصوم الإدارة إلى تحميلها وزر ارتفاع أسعار النفط، والتدهور في العلاقة مع الرياض، وإدارة الصراع مع روسيا، بقدر أقل من الكفاءة والمهنية.
لكن ذلك لا يعني أن واشنطن ستقف صامتة بعد قرارات "أوبك +" واندلاع الأزمة مع الرياض، فهي إن فعلت، تكون قد سلّمت بخسارتها لدورها القيادي المهمين، وقد يشجع ذلك دولاً أخرى، على فعل شيء مماثل، وليس مستبعداً أن تتخذ إدارة بايدن قرارات تتعلق بفرض التجميد المؤقت على مبيعات السلاح وقطع الغيار والذخائر للسعودية، أو بعض أنواعها على الأقل، أو فرض قيود على استخدامها في حربها على اليمن، لكن الأمر لن يتعدى ذلك كثيراً، ولن يصل إلى حد القطع والقطيعة مع الرياض.
ليست المرة الأولى، التي تمر بها علاقات الرياض بواشنطن، بعنق زجاجة ضيّق، والأرجح أنها لن تكون الأخيرة، بل أن السيناريو المستقبلي الأكثر ترجيحاً، هو أن تتوالى (وقد تتسارع) دورات التأزم والانفراج في علاقاتهما الثنائية، وما يحصل اليوم، هو امتداد لما حصل في جدة، عندما تكفّل ولي عهد المملكة بعودة جو بايدن من أول رحلة شرق أوسطية له كرئيس للولايات المتحدة، بالقليل من الحمص كما قلنا في مقالة سابقة، لكن مع ذلك، ستبقى مساحات المصالح والمخاوف المشتركة، أوسع بكثير من قضايا الخصومة والخلاف، إلى أن تستقر هذه العلاقات، على قواعد جديدة، أكثر توازناً واتزاناً.
اضف تعليق