اللاعنف انتصار على الذات ونوازعها الشريرة، ولا يستطيع الانتصار على النفس الا الاحرار ذوي الارادة الصلبة والهمة العالية. واللاعنف سلاح المظلومين في مواجهة الظالمين، ولا يمكن ان يتبنى اللاعنف من قبل الظالمين في الدفاع عن قضية ظالمة، اللاعنف سلاح يحتاج الى المطاولة والنفس الطويل...
لا يعرف معنى اللاعنف ولا يقدر الدعوة له الا من اكتوى بنار العنف وقدم الضحايا في طريقه، والشعوب التي ذاقت مرارة العنف هي الشعوب الاكثر تمسكا بثقافة اللاعنف، الدرس اللاعنفي جاء على اثر ما وجده الانسان وشعر به من اثار العنف وفداحة خسائره، ويسمى اللاعنف بأنه الخيار الثالث، اذن امام الانسان ثلاث خيارات في استحصال حقوق او الدفاع عنها وهي، أما الاستسلام والخنوع، العنف، اللاعنف ويعتمد اللاعنف على القدرة الداخلية والروحية على التحكم بالذات.
اللاعنف انتصار على الذات ونوازعها الشريرة، ولا يستطيع الانتصار على النفس الا الاحرار ذوي الارادة الصلبة والهمة العالية. واللاعنف سلاح المظلومين في مواجهة الظالمين، ولا يمكن ان يتبنى اللاعنف من قبل الظالمين في الدفاع عن قضية ظالمة.
اللاعنف سلاح يحتاج الى المطاولة والنفس الطويل ولا يحقق اهدافه بسرعة لهذا يلجأ البعض للعنف بحجة سرعة انجازه لاهدافه ولكن يرافقه الدمار والضحايا والنكبات والانتهاكات. يقول المهاتما غاندي (في البدء يتجاهلونك، ثم يسخرون منك، ثم يحاربونك، ثم تنتصر) اذ كان غاندي في منتهى الصلابة الروحية وقمة الايمان القلبي بحتمية الانتصار. ومن مقولاته الرافضة للثأر وممارسة العنف كرد فعل (إن مبدأ العين بالعين يجعل العالم بأكمله أعمى).
وقد اثبت اللاعنف جدواه حين انهزم العنفيون المدججون بالاسلحة وادوات القتل والتعذيب امام اللاعنفيين العزل الا من صلابة الارادة وعلو الهمة وصفاء النفس والروح وشجاعة القلب.
وما اطلق عليه (الربيع العربي) الذي تحققت من خلاله الكثير من الانجازات على في عدة دول عربية، لعل تونس ومصر في المقدمة منها، ولم يكن ثوار الربيع العربي ودعاته وقادته الا لا عنفيين واجهوا آلات القمع والقتل بصدورهم العارية فانهزمت امامهم جيوش المستبدين بكل قوتها.
يقول مولر (الخطوة الاولى باتجاه اللاعنف تبدأ من وعي هذا الوضع الاجتماعي والثقافي الذي يثقل كواهلنا منذ قرون والذي جعلنا نعتقد بأن العنف ليس ضروريا فحسب انما يستحق التمجيد ايضا.اذ ان كل الايديولوجيات التي هيمنت على مجتمعاتنا مجدت العنف عندما ربطته بجملة من القيم والفضائل من مثل الشجاعة والجرأة والتضحية والرجولة والنبل والشرف والعدالة والحرية... بحيث بدأ العنف بحد ذاته في وعينا لابل في وعينا الباطني ايضا،فضيلة وقيمة، وبحيث بدا اللاعنف نفيا لهذه الفضيلة وانكارا لها. واذا كنا نعتقد حقا بأن العنف هو فضيلة الانسان القوي،فان اللاعنف لايمكن ان يكون الا ضعف الانسان الذي تعوزه الشجاعة ليكون عنيفا. واذا كان العنف فضيلة، فان اللاعنف يغدو جبنا.
ومن اهم مايتنااوله مولر من مفاهيم هو العدوانية اذ يقول ان العنف ماثل بقوة في قلب التاريخ البشري الى درجة اننا بتنا نعتقد بأنه منقوش في قلب الانسان. لذلك يبدو من غير المفيد التحدث عن اللاعنف طالما ان ذلك يتعارض مع القانون الطبيعي نفسه. ولكن اذا نحن اصغينا الى علماء النفس فأنهم يقولون لنا بأن العنف لايلازم الطبيعة البشرية بالضرورة، انما هي العدوانية التي تلازمها كما انه ليس من المحتم على الاطلاق ان تعبر هذه العدوانية عن نفسها بالعنف.) ويعبر مولر عن فكرته معبرا عنها بوضع الفرق الشاسع بين العدوانية والعنف ،اذ يرى ان العدوانية قوة نضالية يؤكد من خلالها المرء ذاته وبدونها يغدو الانسان عاجزا وفي حالة هروب امام تهديدات الاخر فيصبح سجين الخوف الذي يردعه عن مقاتلة عدوه.
ويشير المؤلف الى مايسميه (ضبط الخوف) لان ضبط الخوف يتيح ضبط العدوانية فتعبر عن نفسها بوسائل اخرى تختلف عن وسائل العنف المدمر. عندئذ تصبح عدوانيتي عنصرا اساسيا في علاقتي بالاخر التي يمكن ان تغدو ذات قائمة على العدالة والاحترام لا على السيطرة والاستغلال.
ويؤكد مولر ان الوصول الى اللاعنف لايتم الا من خلال النضال،فيقول (اذا كا ن العمل اللاعنفي يستنفد كل امكانيات الحوار بطبيعة الحال فانه لايقف عند حدود ممارسة الحوار،اذ عندما تحدث مواجهات بين الطبقات الاجتماعية او بين الفرقاء المتخاصمين، فانه قلما تنقصنا ارادات خيرة تدعو الفريقين المتنازعين الى لقاء حول طاولة التحاور،غير ان هذه النداءات سرعان ماتذهب سدى ذلك ان الحوار يظل غير ممكن الا من خلال النضال.
وعن مخرجات العنف ونتائجه يقول مولر(لايبرز العنف في نزاع ما الا في اللحظة التي يأخذ فيها هذا النزاع منحى تدميريا، ما يستوجب معه موت احد الخصمين المتجابهين،وفي هذا الشأن يقول بول ريكور(يجب الا نخدع بوجهة العنف والغاية التي يصبو اليها ضمنيا او صراحة، مباشرة ا و بطريقة غير مباشرة،فالعنف يعني موت الاخر او شيئا ما اسوأ من موته).
تلك هي دلالة العنف الحقيقية والتي من خلالها نستطيع اعطاء اللاعنف معناه الحقيقي،ففي الوقت الذي أعي فيه العنف كمسار موت يفسد جذريا علاقتي بالاخر،يصبح من واجبي رفض كل تبرير للعنف. فالوعي الفلسفي يبدأ من وعي العنف باعتباره عائقا في سبيل مصالحة الانسان مع ذاته ومع الاخر.
يقول جان ماري مولِّر فيلسوف فرنسي، اختصاصي في اللاعنف (نحن اذ نواجه العنف فأننا ندرك بان الحياة الحقيقية مغيبة) وحين نرفض كل تكيف مع العنف فانه يسعنا ان نأمل (بتغيير الحياة). من شأن العنف ان يدخل اللامعنى الى وجود الانسان، وبمقدار ما يتواطأ الانسان مع العنف فأنه يغدو أسير قدر عبثي. وحده اللاعنف يدخلنا في دينامية من الامل تحررنا من حتمية العنف.
وعن العلاقة بين الدين والعنف وسبل المواجهة الثقافية يقول مولر (ان الثورة الثقافية يجب ان تطال الايديولوجيات الدينية التي عظمت العنف لابل قدسته. فالأديان المسيحية التي لعبت دورا حاسما في تاريخ الغرب ساهمت الى حد كبير في جعل هذا التاريخ تاريخا للحروب قبل اي شيء اخر، والواقع انه ليس من ادنى شك الى ان تعاليم الكنائس الثابت ـ وثمة اجماع مسكوني مميز في هذه المسألةـ كان تعليم لاهوت العنف الشرعي. وقد اتاح هذا اللاهوت لكل فريق من الفريقين المتقاتلين ان يعلن وبقوة بأن الله انما هو الى جانبه وان الحرب التي يخوضها انما هي حرب عادلة حين يكون عاجزا عن الادعاء بقدسية هذه الحرب.
ومن جانب اخر فان مولر يقول (وفي الوقت عينه فان كبار معلمي اللاعنف، وهنا نقصد تولستوي وغاندي ـ الذي لم يكن مسيحيا ومارتن لوثر كينغ وسيزار شافيز كانوا جميعا يستلهمون الانجيل ويرجعون اليه في مسيرتهم الذاتية نحو اللاعنف، وهنا يبدو من المهم الا يجري ربط اللاعنف اي ايمان ديني، اذ يكفي ان تكون ملحدا لتقر بان الانجيل يتمحور بكليته حول اللاعنف وان هذا اللاعنف الانجيلي انما يعبر عن نفسه بالسلوك الحياتي والعمل وليس بالفكر او القول، ويشير المؤلف الى عدد من مستويات العنف: عنف الاوضاع الظالمةـ عنف حركات التحرر ـ عنف اعمال القمع، المهم ان الكتاب يتضمن الكثير من الافكار التي يمكن ان تصبح عدة سلوكية ومنهجية ويمكن ان تبنى على وفقها ستراتيجية لحل النزاعات.
فجان ماري مولر مع انه يدعو الى اللاعنف الا جعبته لا تخلو من حتمية الوقوف على الحافات الاولى للعنف، اذ انه لا يمكن ان يتخلى عن مفردات من مثل النضال، والصراع الطبقي. اذ يقول في ملحق بيان من اجل خيار لاعنفي (ان التزامنا باللاعنف يدعونا للكشف عن الآليات التي تسبب البؤس والطغيان والفتن والعنف.
ومن غير الجائز لنا ان نساوي بين كل اشكال العنف ايا كان نوعها، اذ ندينها كلها دون ان ننظر الى مصدرها، وبالتالي لا يمكننا ان نضع عنف الاغنياء والاقوياء الذين يبذلون ما بوسعهم للابقاء على هيمنتهم وللدفاع عن النظام القائم على المستوى نفسه مع عنف المقهورين الذين يجاهدون من اجل الحصول على حريتهم وكرامتهم.
وعند مواجهة الظلم، اذ لم يكن هناك من خيار الا بين المقاومة المسلحة والتعاون الاستسلامي مع الظالمين، فانه يصير من الافضل اختيار العنف. واما اولئك الذين اختاروا العنف ليواجهوا الظلم، معرضين أنفسهم لشتى انواع المخاطر، هؤلاء يستحقون احترامنا وتضامننا.
مولر يستعرض الكثير من الآليات اللاعنفية كالتظاهر والاعتصام والعصيان المدني والمقاطعة الاقتصادية. كما انه يستعرض بعض التجارب اللاعنفية لاسيما تجربة غاندي في الهند.
اضف تعليق