لقد تحول القطاع العام في العراق ليس الى عبء ثقيل على الاقتصاد العراقي، وثقب أسود يبتلع كل ريع النفط فحسب، بل صار باباً من أبواب الفساد الكبرى التي لا يريد الفاسدون غلقها، فهل نحن اقتصاد اشتراكي، أم رأسمالي، أم فرانكشتاني...
أزور حالياً إحدى الدول وعلمت أن هناك وفداً من شركة حكومية يفاوض شركة أجنبية لتعمل (الشركة العراقية) كمقاول فرعي لتلك الشركة التي حصلت على عقد كبير في العراق، ولأن تلك الشركة الأجنبية ستوفر كثيراً وتقلل مخاطرها عند التنفيذ، فقد قررت إحالة العمل الى مقاول فرعي عراقي (حكومي) لتنفيذ جزء من المقاولة.
ويبدو ان هناك توجيه حكومي بتشغيل آلاف العاملين العراقيين الذين يتقاضون رواتب من الدولة دون ان تعمل شركاتهم اي شيء، كما هو الحال مع شركات وزارة الصناعة الخاسرة (غالبا لتوقف مكائنها) والتي لديها جيش من الموظفين ينتظرون رواتبهم في نهاية كل شهر دون ان تستطيع تلك الشركات تغطية كلفها لا التشغيلية ولا الرأسمالية!
ولأن(عبقرية) الإدارة العراقية تأبى أن تغادرنا، كان التوجيه أن يتم التعاقد مع شركات قطاع خاص لكي تتم الشراكة معه في تنفيذ مناقصات حكومية والحصول على أرباح تغطي الكلف وتدفع رواتب الموظفين (العطالة بطالة). ولأن وزاراتنا وحكوماتنا أبتُليت بملايين الموظفين الفائضين الذين ليس لهم عمل، والذين لا هي تستطيع دفع رواتبهم ولا تستطيع تسريحهم لأسباب سياسية أو خشية من رد الفعل الشعبي والاعلامي على تسريحهم.
فقد ساهمت الحكومات الرشيدة بتوجيهاتها غير الرشيدة بدفع تلك الشركات (وبخاصة المديرين والمسؤولين فيها) ليتحولوا الى سماسرة يسعون الى (ربط لحية بلحية) مقابل عمولات تبلغ ملايين ومليارات الدولارات تذهب لجيوبهم، وجيوب الشركات التي تم التعاقد معها، كون قانوننا يعطي الشركات الخاصة الشريكة مع شركات القطاع العام(البليدة) امتيازات كثيرة يسيل لها لعاب الفاسدين في الطرفين (الحكومي والخاص).
كثيرون يتذكرون فضيحة عقد وزارة التربية مع احدى شركات وزارة الاسكان لبناء مئات المدارس (خلال حكومة المالكي الثانية). دخلت تلك الشركة (العامة) بشراكة مع أحد كبار الفاسدين في القطاع الخاص والذي قبض مئات ملايين الدولارات كدفعة اولى لبناء المدارس استثناء من شروط المناقصات الحكومية، لكونه شريك مع القطاع العام في المناقصة.
دفعة اولى
وبعد ان قبض الدفعة الاولى التي أعطى (تفاليس) منها للفاسدين في (الشركة الحكومية) أعلن افلاسه واشترى طائرة خاصة (وگلب بالدخل) وبقي حجر الاساس للمباني المدرسية (الوهمية) لتلك الصفقة الفاسدة شاهداً على واحدة من أكبر صفقات الفساد التي لم يستطع القضاء تجريم الفاسدين الكبار فيها.
أننا نعاني من مشكلة حقيقية يتم ترحيلها من حكومة لأخرى هي مشكلة الاقتصاد المشوه. فبعد أن تحول العراق بعد 2003 إلى النظام الرأسمالي والسوق الحر، وجد نفسه غارقاً في شركات قطاع عام كثيرة (في الصناعة والتصنيع العسكري والتجارة والأسكان والنفط وغيرها) لم تعد تعمل وليس لها فائدة.
وزاد الطين بلة حملات التوظيف (الجائر) لأسباب (سياسية) وأخرى (غبائية) وثالثة (فسادية) ضاعفت من عدد موظفي القطاع العام عشر مرات منذ 2003 بحيث باتوا كالجراد يأكلون كل موارد الخزينة العامة للدولة! وبدلا من اتخاذ قرارات جريئة ترافقها حلول أنساني واقتصادية صحيحة لهذه المشكلة رضينا ان نبقى ندور في فلك اقتصاد (فرانكشتاني) لا هو اشتراكي ولا هو رأسمالي.
وشرّعنا باباً من أكبر أبواب الفساد تحول فيه المدراء في شركات القطاع العام (الطفيلية) الى سماسرة جُلّ ما يفعلونه هو التوسط للقطاع الخاص ليأخذ مقاولات من الحكومة بمبالغ أعلى من الحقيقة نظير عمولة يحصلون عليها وبحجة الشراكة مع القطاع الخاص لتشغيل ودفع رواتب الاف موظفي القطاع العام العاطلين.
المفارقة أن الشركة الاجنبية العملاقة التي تحدثت عنها في بداية المقال والتي هي المقاول الرئيس الذي أحيلت عليه أحدى المقاولات الحكومية الكبرى لا يعمل فيها سوى بضع مئات من العاملين فقط، في حين يصل عدد العاملين في شركة القطاع العام العراقية والتي تريد ان تعمل كمقاول (فرعي) للشركة الاجنبية الى ما يناهز عشرة آلاف عامل، وأن 60-70% من مكائنهم ومعداتهم الثقيلة عاطلة وخارج الخدمة!!
لقد تحول القطاع العام في العراق ليس الى عبء ثقيل على الاقتصاد العراقي، وثقب أسود يبتلع كل ريع النفط فحسب، بل صار باباً من أبواب الفساد الكبرى التي لا يريد الفاسدون غلقها، فهل نحن اقتصاد اشتراكي، أم رأسمالي، أم فرانكشتاني؟! افيدونا أيها الحاكمون، وكفوا أبواقكم وأيديكم عنا أيها الفاسدون.
اضف تعليق