مصدر التحولات في الكيانات الاجتماعية هو المحيط العام الذي يتطور باستمرار في كل المناحي والجوانب. وإرادة أبناء هذه الكيانات. على تطوير واقعهم وإيصاله إلى مستوى أرقى مما هو عليه. وأن غياب هذه الإرادة. لا يوقف التطورات في المحيط العام. وإنما يعطل قدرة الكيانات الاجتماعية المتوقفة عن التطور الذاتي...
إدراك الأولويات الوطنية في البناء الاجتماعي. ونبذ حالات التقليد الأعمى لتجارب الغير، وغرس روح الابداع والابتكار، الذي هو الطريق الأمثل لتمثل الأفكار الإنسانية الصالحة
من البداهة القول إن الواقع الإسلامي اليوم يتشكل ويتقوم من مكونات وعوامل شتى، إلا أنها متشابكة ومتراكبة، وقد بلغت قدراً من التعقيد وبمجملها هي التي يتشكل منها واقع الإسلام المعاصر، وأمر التحولات في هذا الواقع كامنة في هذا الواقع ذاته. ومكوناته المتعددة. إذ انها ذات طبيعة متحولة ومتطورة ومتغيرة باستمرار على حسب تبدل الظروف والأحوال. والإسلام باعتباره مكوناً أساسياً للواقع العربي والإسلامي يشكل بالنسبة لنا المعيار والهدف في آن. حيث ان المجتمعات العربية والإسلامية تجعل من قيم الإسلام الكبرى هي الغاية وتسعى لإحداث تغييرات وتطورات مرغوبة في الواقع الذي يعيشه المسلمون اليوم.
وبهذا فإن مصدر التحولات في الكيانات الاجتماعية ـ هو المحيط العام ـ الذي يتطور باستمرار في كل المناحي والجوانب. وإرادة أبناء هذه الكيانات. على تطوير واقعهم وإيصاله إلى مستوى أرقى مما هو عليه. وأن غياب هذه الإرادة. لا يوقف التطورات في المحيط العام. وإنما يعطل قدرة الكيانات الاجتماعية المتوقفة عن التطور الذاتي واستيعاب وتوظيف تطورات المحيط العام.
فالكيانات الاجتماعية قادرة على التغيير والتطور حين تريد ذلك. كما انها تتغير رغماً عنها بفعل تغير أحوال المحيط العام، فالتاريخ العربي والإسلامي. لا يحدثنا أن مصدر التغيير والتحولات العامة، هو فقط المعرفة الذاتية والدوافع العامة التي تخلقها في النسيج الاجتماعي.
وإنما كان دائماً هضم واستيعاب علوم ومعارف المجتمعات الأخرى وما تحدث هذه العملية من تأثير وتفاعل مصدراً آخر من مصادر التطوير والتغيير. وكان دور أقطاب العلم وائمة المعرفة ومؤسساتها في التجربة التاريخية، هو إحداث عمليات تكييف لهذه العلوم والمعارف بحيث تشكل حالة سوية في الجماعة العربية والإسلامية.
من هنا فإننا نؤكد على الأمور التالية:
معرفة الحوامل المعرفية والاجتماعية: إذ لا يمكن أن نتعرف على حركة التحولات الاجتماعية، إذا لم ندرك ونستوعب الحوامل المعرفية والاجتماعية الحقيقية للتحولات العامة. وبهذا يتم الابتعاد عن تلك الأفكار الخرافية والقدرية التي لا تؤدي إلا إلى تعطيل الإنسان عن أداء دوره الحقيقي في الوجود.
وينبغي أن ندرك أن معرفة حوامل التحولات الجوهرية. تعتبر تجاوزاً نوعياً إلى تلك العقدة الكامنة في الكثير من العقول، والتي تحول دون إحداث التحول المطلوب في الواقع القائم.
استيعاب الجانب الموضوعي للتحولات: من الطبيعي أن لهذه التحولات بعداً موضوعياً، يتكامل مع البعد الذاتي المباشر لعملية التحولات الاجتماعية. ولا يمكن أن يتم فقه التحولات الاجتماعية ومعرفة آلياتها واتجاهها إذا لم ندرك البعد أو الأبعاد الموضوعية لهذه التحولات.
بمعنى أن حركة الناس اليومية. وفي كل الاتجاهات وتواصلهم مع المجتمعات والحضارات الأخرى تشكل هذه الأمور بمجموعها ظروفاً موضوعية. تشجع على عملية التحول، وتهيئ النفوس والعقول له وبدون إدراك هذه الظروف لا يمكننا بأي شكل من الأشكال التقاط إشارة التحول ومعرفة اتجاهه.
لذا من الخطأ تضخيم العوامل الذاتية للتحولات الاجتماعية والتغافل عن العوامل الموضوعية لهذه العملية.
واستيعاب الأبعاد الموضوعية لعملية التحولات الاجتماعية يعني:
1) توظيف تطورات العصر وتحولاته السريعة في اتجاه تطوير قابلية النهوض الاجتماعي، إذ ان المجتمعات العربية والإسلامية تمتلك التطورات المتلاحقة ثقافياً واجتماعياً، لتطوير قابلية النهوض الاجتماعي. ومن الأهمية ان نذكر ان هذه القابلية بتعبيراتها المتعددة هي التي وقفت أمام الكثير من مشاريع التحريف في الأمة.
2) إدراك المعادلات الاجتماعية القائمة التي تشكل ذاكرة المجتمع ووعاء فعله ومصدر تجاربه. حتى يتم الابتعاد الكلي عن عمليات الإسقاط الأيدلوجية أو السياسية. واستطراداً نقول ان أحد الأسباب الرئيسية. لعملية الإخفاق للكثير من المشاريع الفكرية أو السياسية في العالم العربي والإسلامي هو عدم إدراك تام للمعادلات الاجتماعية القائمة، وبالتالي سعت هذه المشاريع، إلى اسقاط معادلات الآخرين على الواقع العربي والإسلامي. فالموضوعية تقتضي إدراك المعادلات الاجتماعية وصياغة الأفكار والاستراتيجيات على ضوء هذا الادراك.
3) تنظيم العلاقة بين المعرفة والواقع: إذ ان شروط الوعي التاريخي في كل حقبة تاريخية تختلف، ولسنا ملزمين بإسقاط شروط الوعي التاريخي لحقبة تاريخية على كل الحقب والفترات التاريخية.
وفي هذا التنظيم نتجاوز حالة "النقاش خارج الواقع" والتي تعني كما عبر عنها د. برهان غليون في "اغتيال العقل ص43 وص48" انغلاق العقل داخل دائرة اطروحات وقضايا تبلورت في وضع حقبة معينة فأصبحت هي التي تتحكم برؤية العقل للواقع وتمنعه من تحديد أدواته وطرائقه بالاحتكاك مع التجربة المتغيرة والملاحظة المباشرة وتجعله لا يعيش الواقع إلا على مستوى القضايا والأفكار المصاغة مسبقاً وخطأ السكولستيكية "النقاش خارج الواقع" هو انها تخضع تحليل الواقع إلى تحليل الأنظمة الشكلية والصورية للفكر وتنتهي إلى قياس الواقع العملي على الواقع النظري بينما استيعاب الأبعاد الموضوعية للتحولات يعني قدرة الفكر على الامساك بالواقع أو التحكم به وذلك عبر معاينة الواقع وفهمها وتحليل عناصرها وعبر هذه الأمور يتمكن الإنسان من الاستفادة القصوى من التحولات الاجتماعية دون أن تؤدي هذه التحولات والاستفادة من إحداث غربة نفسية أو اجتماعية للإنسان.
فالتحولات الاجتماعية واقعة قائمة. ولا يمكن نكرانها أو التغاضي عنها، وإنما المطلوب دائماً استنطاق ثوابت الإسلام لبلورة الرؤية والموقف الصائب تجاه هذه التحولات وإننا نخسر كثيراً حينما نجمد ونتقاعس دون أن نستجيب استجابة حضارية وواعية على تطورات العصر.
وان المطلوب هو أن نفتح أبواب الحضارة على أنفسنا.. وفي منظورنا أن أية حضارة لا تبدأ إلا بتكامل عاملين: العقل والروح. الفكر والإرادة، العلم والايمان.. لذلك من الأهمية بمكان أن ننفتح على عناصر ومفردات الفكر والإرادة حتى يتسنى لنا استيعاب تطور العصر. والاستجابة الواعية إلى التحولات الاجتماعية العميقة والسريعة في آن.
لذا فإننا بحاجة أن نبلور المنهج والكيفية العلمية. التي توفر لنا التقنية اللازمة لاستيعاب تحولات الراهن. ولابد من الادراك، أن مجرد الاحتفاظ بالمبادئ العامة. لا يعني توفر المنهج، الذي ينقل هذه المبادئ من عالم المثل إلى عالم الواقع. وإنما بحاجة إلى بذل جهود نوعية ومكثفة لصناعة ذلك المنهج الذي يأخذ بيد الناس. للوصول بهم إلى ما يجب أن يكون ليتم تحقيق ما تقتضيه جملة المبادئ والقيم العامة. لهذا وفي اطار ضرورة استيعاب تحولات المجتمع والعصر. من الضروري التأكيد على النقاط التالية:
1) ضرورة الانفصال النفسي والاجتماعي، عن رواسب وثقافة التخلف والتأخر، والاتصال الفعال بأسباب الحياة الكريمة.
2) إعادة النظر في مناهج التثقيف، وأهداف اكتساب الثقافة والعلم. في ضوء هدف مركزي، هو صناعة الإنسان الجديد وفق ثوابت الشريعة وتطورات العصر.
3) إدراك الأولويات الوطنية في البناء الاجتماعي. ونبذ حالات التقليد الأعمى لتجارب الغير، وغرس روح الابداع والابتكار، الذي هو الطريق الأمثل لتمثل الأفكار الإنسانية الصالحة.
بهذه العناصر تستطيع المجتمعات العربية والإسلامية، التي فقدت فاعليتها وتوقفت عوامل الدفع الحضاري عن العمل، ان تعيد لها الفاعلية وتوقظ عوامل الدفع الحضاري، وتدفعها إلى قلب الفعل الحضاري.
اضف تعليق