عديدة هي المرات التي نودي فيها بانتهاء صلاحية النظام السياسي رغم شرعيته الدستورية، الان بات موكدا ان النظام فقد امكانيات صموده نهائيا ولن يعود بصيغته السابقة، فقد اقترب النظام فعليا من نهايته وصارت معركة وجوده بيد الشارع المنقسم المتخاصم بعدما كانت بيد السياسيين ونخبتهم...
عديدة هي المرات التي نودي فيها بانتهاء صلاحية النظام السياسي رغم شرعيته الدستورية، الان بات موكدا ان النظام فقد امكانيات صموده نهائيا ولن يعود بصيغته السابقة، فقد اقترب النظام فعليا من نهايته وصارت معركة وجوده بيد الشارع المنقسم المتخاصم بعدما كانت بيد السياسيين ونخبتهم.
منذ التصويت على دستور عام 2005 والنظام يواجه الازمة تلو الازمة، يومها كانت التحليلات منصبة على تمظهرات التنافس والصراع على السلطة دون النظر الى جذور المشكلات، لقد نجح النظام في احتوائها مع كثير من الاخطاء والاحباطات، جاءت كارثة داعش، واعلان خلافتها في موصل العراق، حزيران عام 2014، لتؤكد استنفاد النظام لمعظم طاقات البقاء، فلم تكن (دولة داعش) سببا بل كانت نتيجة لذلك الخلل البنيوي مجتمعيا ومؤسساتيا، يومها اتيحت فرصة ذهبية ليعيد العراقيون قراءة اسباب ما حدث ببصيرة، ومراجعة سياسات وادارة النظام السياسي بما يمنع تراكم الازمات والاخفاقات.
تحدث نابهون يومها عن وصول نظام دولة 2003 الى نهايته ولابد من عقد جديد ورؤية متجددة، غير ان حرب التحرير وانشغالات القوى السياسية باستثمار الفرص، اضاع على العراق مراجعة ضرورية بكلفة اقل، في تلك البرهة اهتمت القوى السياسية بالمناكفة والتنافس على تعزيز المواقع داخل النظام وتسجيل النقاط ضد الخصوم.
مع ان الجميع (مكونات واحزاب) يتحمل في الواقع مسؤولية ما جرى بحكم المشاركة في السياسات والقرارات والانغماس في منظومة الاخطاء والفساد والتربح الآني، في خضم حرب التحرير الضروس سقطت رمزية النظام وشرعيته الدستورية باقتحام البرلمان عام 2016، تحت يافطة المطالبة بالاصلاح، استوعب النظام الصدمة مرة اخرى ونجح بترحيلها الى وقت قادم، لكن المشكلة تجذرت داخل المكون الواحد بعدما كانت المرحلة السابقة تسودها ظاهرة صراع المكونات التي سمحت باطالة عمر النظام عبر تسويات تتم بضغوط خارجية والاستجابة لمقتضيات الحفاظ على مصالح الاحزاب والسياسيين.
تمدد عمر النظام مرة اخرى باعلان النصر على داعش ودخول قوى سياسية جديدة للميدان مستثمرة النجاحات ضد التنظيم الارهابي، وهي متحمسة لمنع اي مراجعة للسياسات والاخطاء، كانت المرجعية العليا تنادي بفتح معركة الاصلاح ومواجهة اخطبوط الفساد، وهو المحرك الاول للغضب الشعبي المتزايد، واعتبرت الحرب ضد الفساد مماثلة في الاهمية للحرب على الارهاب ، لكن احدا لم يع حجم المخاطر، كان النصر على داعش فرصة انعشت الهمم لادامة شريان الحياة في نظام زبائني يحتضر وعاجز، لانه وفر فرصة عظيمة للقوى الطامحة لتحقيق مكاسب هائلة لم يكن يسمح بها نظام سياسي دستوري بحوكمة معقولة.
اظهرت القوى والزعامات السياسية خفة واضحة في التعامل مع التحديات، وواصلت سياسة التسويف لتتفاجأ بصدمة تشرين عام 2020 ومضاعفاتها، وككل ازمات العراق التي تتناسل وتتضاعف لقصر نظر السياسيين وحساباتهم الخاطئة، انفجرت ازمة نتائج الانتخابات المبكرة لعام 2021 لتطال هذه المرة شرعية النظام الدستورية.
وينقسم الشارع الى تيار منادي بتغيير (ثوري ديمقراطي سلمي!) واطار مدافع عن شرعية المؤسسات والسلطات، وكلا الاتجاهين ينتمي الى مكون واحد ورمزية دينية واحدة ومدرسة سياسية واحدةفي جذورها. المشكلة العميقة الان، ان لا احد يملك رؤية للخلاص من المأزق، فليس بمقدور المطالبين بالاصلاح والتغيير المضي بالمشروع دونما ارتكاب اخطاء سياسية فاحشة كتعطيل ما تبقى من شرعية دستورية، ما يعني انقلابا على النظام برمته وترجيح الشرعية الثورية وهي شرعية ترتبط بالاذهان بانقلابات المؤسسة العسكرية او ما يوازيها في القوة، لنتذكر ان الانظمة الديمقراطية التي جاءت وفق الشرعية الدستورية على انقاض حكومات العسكر في مصر وتونس، خسرت مواقعها بانقلابات من داخل النظام كما فعل الجنرال عبدالفتاح السيسي في مصر والرئيس المدني قيس سعيد في تونس. فلم يكن هم الجمهور حماية الشرعية الدستورية للنظامين بقدر ما كان يريد شرعية كفاءة الاداء وشرعية الانجاز.
التجربتان لا يمكن استنساخهما في العراق لغياب المؤسسة العسكرية الموحدة المنضبطة، ولتفكك بنية السلطات وتضعضع صلاحياتها، من يريد ان يتكأ على الشرعية الثورية لا يجد غير حماس الشارع وجموع الغاضبين المطيعين لرمز واحد، وهي تقترب الى حدما من شكل الثورات الملونة التي حدثت في جورجيا عام 2008 واوكرانيا عام 2014، واذا كان هناك من هو مقتنع بان الحل لازمة العراق يمر عبر طريق الشرعية الثورية ولا يرى امكانية لحل اخر ،فان المتشبثين بالشرعية الدستورية لديهم حججا ظاهرية معقولة تخشى من عودة العراق الى منطق الشرعيات الثورية ويحذرون من هيمنة تيار بعينه على مقاليد الامور وسقوط مسار التداول السلمي للسلطة.
وكلا الاتجاهين ينشغلان الان بتحشيد الشارع والمراهنة على قوته لارغام الطرف الاخر على الاذعان، لكن توازن القوى قد يدفع نحو الصدام المسلح بقصد او بدونه، وبقرار او دونما قرار، الامر الذي يثير قلقا وفزعا كبيرا من الاغلبية الصامتة الحائرة، وهي اغلبية غير فاعلة وليست مؤثرة حاليا في ترجيح كفة طرف على اخر.
الصامتون الان لا يثقون بطرفي الصراع ويعتقدون ان المكون الشيعي الذي تحمل مسؤولية اعادة بناء الدولة يخسر كثيرا بهيمنة قوى اقلوية على قراره ورؤيته، وان الطيف الواسع المتفرج غير راض عما يجري، لكنه يعتقد ان انقاذ النظام الحالي من نهايته المحتومة بات امرا عسيرا، فليس بوسع النظام اصلاح نفسه من الداخل.
كما ان مقتضيات المستقبل والمصلحة العامة ترفض هيمنة رؤية حزبية على افق الحل ليغدو النظام اسير راديكالية حزبية مجربة، الحل المرحلي رهين بدخول طرف ثالث يعمل على منع الصدام العنيف وادارة الازمة وتقليص زمن المماحكات والاشتراطات وتحديد موعد لمؤتمر الاصلاح الدستوري والذهاب الى الانتخابات مجددا بشروط تمنع ولادة ازمة جديدة وتسهل عملية بناء السلطات وفق ثنائية الموالاة والمعارضة يصار بعدها الى فتح ملفات الفساد والمحاصصات بدون استثناءات ولا محاباة.
اضف تعليق