لقد تكلست مسارات العملية السياسية ولم يعد بمقدورها التقدم الى الأمام أبدا، ولذلك لابد من العودة الى المربع الأول، وليس ترحيل الأزمة الى الأمام بالذهاب الى انتخابات مبكرة، لأنها لن تكون الحل إذا لم تسبقها خطوات، وأول تلك الخطوات تعديل الدستور وقانون الانتخابات من خبراء متخصصين بعيدا عن الضغوط السياسية...
لا جدال في ان الأغلبية السياسية هي المخرج، اذا ما أُريد للعملية السياسية أن توضع على السكة الصحيحة، وان المحاصصة وان جُملت بألفاظ التوافق والشراكة الوطنية لن نحصد منها سوى الخراب، والكل يعرف ذلك ومنذ السنوات الأولى للتغيير السياسي، وبعد مرارة الاقتتال الأهلي وشيوع الفساد وانعدام الخدمات ما عاد الأمر بخاف على أحد حتى لأبسط الناس. ان الانقسام الحاصل بين الأطراف السياسية بين مطالب بالأغلبية كما هي حال التيار الصدري، ومتمسك بالتوافقية كما هي حال الاطار التنسيقي، يكشف عن تطور مهم، وان كان متأخرا جدا، اذ بدأ البعض يتلمس مواضع الخلل في العملية السياسية، ويُبصر بحدود معينة المسار السليم. ويُفترض بالسياسيين أن يعرفوا ذلك مسبقا، او على الأكثر بعد انتهاء الدورة البرلمانية الأولى، فمن غير المعقول مرور عقدين من الزمن حتى نتعلم، فقد كانت جميع القوى حينذاك مستمتعة بالتوافق وظنّت فيه طريقا آمنة لتجربة ديمقراطية متينة تكفل الحريات وتعزز المواطنة وترتقي بالبلاد، فصمت الكل بانتظار الثمار، فاذا بها متعفنة لا تُطاق، لا يتقبلها نظر، ولا يستسيغها ذوق، وغير قابلة للهضم.
ومع ذلك مازالت أطراف عديدة متمسكة بالمحاصصة وتدافع عنها علنا وأخرى بالخفاء، او بكلمات براقة ومفتوحة على تأويلات شتى، او بمثابة اشتراطات على الجهة التي يُحتمل أن تشكل الحكومة بعد انسحاب الصدريين.
لماذا يتمسكون بالمحاصصة وهم يعرفون انها لن تفضي الى ما يتطلع اليه العراقيون؟ والاجابة بعيدا عن تهمة الفساد، تتمثل سياسيا في انعدام الثقة بالأطراف الأخرى، والحقيقة ان الجميع لا يثق بالجميع، وعندما تنعدم الثقة يصبح الكلام عن الشراكة والتوازن والتوافق حاضرا بذريعة ضمان حقوق المكونات، والسؤال لماذا انعدمت الثقة بين أطراف يربطها تاريخ طويل من العمل في المعارضة، وتحالفات استراتيجية بحسب وصفها؟
ربما هناك من يقول: لا ثقة في السياسة، وان الأعمال بالأفعال وليس بالنيات، وبهذه الحال لابد من ضمانات، وفي العمل السياسي الضامن هو الدستور عندما لا يكون هشا، والقضاء عندما يكون مستقلا، والقائمون عليه شجعانا، بعد تأمين حياتهم وتحصين مهنيتهم، فهم بشر والمهمة معقدة.
لنتأمل قليلا في المشهد المسدود، لا يمكن للاطار التنسيقي أن يمضي قدما بحكومته التوافقية، وان حصلت على ثقة البرلمان بغياب التيار الصدري، وهذا احتمال بعيد، فإنها لن تحصل على ثقة الجماهير التي اقتحمت البرلمان في أول ملامحها بترشيح محمد شياع السوداني لرئاسة الحكومة بوصف الشعب مصدر السلطات، مع ان الاعتراض ليس على شخصية السوداني، وانما على نهج تشكيل الحكومة، ولكن هل ستجبر التظاهرات والاقتحامات الاطار التنسيقي على الرضوخ لمطالب الصدريين باعتماد الأغلبية نهجا للعملية السياسية، واذا لم يرضخ الاطار، وتواصلت التظاهرات ماذا سيكون الحال؟
ومع المعارضة الشعبية للتيار الصدري لن تتشكل حكومة أبدا الا برضى قيادتها، ولا يمكن لقيادة التيار القبول بحكومة توافقية تخالف ما أعلنته للجماهير وتمسكت به، ومن أجله استقال جميع نوابها من البرلمان، ولا قيمة لحكومة توافقية لأنها ستكون امتدادا لسنوات الفشل. وبالرغم من ان للتيار القدرة لإزاحة الجميع وفرض نفسه بقوة قواعده الجماهيرية وتشكيل حكومة، ولكن ما تداعيات ذلك محليا واقليميا ودوليا، ولا أظن ذلك من بين ما تفكر به قيادة التيار حقنا لدماء العراقيين.
لقد تكلست مسارات العملية السياسية ولم يعد بمقدورها التقدم الى الأمام أبدا، ولذلك لابد من العودة الى المربع الأول، وليس ترحيل الأزمة الى الأمام بالذهاب الى انتخابات مبكرة، لأنها لن تكون الحل إذا لم تسبقها خطوات، وأول تلك الخطوات تعديل الدستور وقانون الانتخابات من خبراء متخصصين بعيدا عن الضغوط السياسية، فما كان للأزمات أن تتلاحق والجمود أن يحصل لولا تفسير المواد الدستورية تحت الضغط السياسي لصالح جهات بعينها على حساب المسار الديمقراطي، ومثالها: كارثة الكتلة الأكبر.
اضف تعليق