ان ما يشكو منه الآباء والمعلمين وغيرهم من عدم احترام هذا الجيل للثقافة الموروثة وتمردهم على القيم والتقاليد يبدو ظاهرة طبيعية أذا فهمناها ضمن سياقها التطوري. وإذا استطعنا أن نفهم هذا السياق ومسبباته فلربما نتمكن من التكيف بشكل أفضل لمواجهة العاصفة الاجتماعية التي باتت تطرق أبوابنا بشدة...
اعكف مع زميلتي الأستاذة المرموقة في علم النفس الاجتماعي في جامعة ستانفورد، ميشيل كيلفاند، ومنذ سنتين على دراسة اجتماعية تجريبية معمقة للمجتمع العراقي على وفق منهجية حديثة تختبر كل ما قيل وكُتب عن الثقافة والشخصية العراقية سابقاً.
وبانتظار صدور الكتاب، فان كثرة الشكاوى والتذمر اللذين لا اشهدهما فقط على مواقع التواصل الاجتماعي، بل أشاهدهما وأستمع لهما من كثير من الآباء والأصدقاء، جعلتني أستبق نشر الكتاب بسلسلة من المقالات القصيرة التي تحاول سبر غور التغييرات المجتمعية الحاصلة وعلاقتها بكثير من المشاهد التي نعيشها في حياتنا يومياً.
سأركز في هذه السلسلة على متغير رئيسي مهم ومؤثر كثيراً في التنشئة الاجتماعية لأجيال العراق وهو التغير الهائل في سلطة ما يسمى بمؤسسات الضبط الاجتماعي social order institutions. يتباين العلماء في عدد مؤسسات الضبط الاجتماعي فمنهم من يجعلها أربع: الأسرة، المدرسة، الدين، والدولة. ومنهم من يضيف لها المؤسسة الاقتصادية. لكني هنا سأركز على ثلاث مؤسسات فقط هي الأسرة والمدرسة والدين كون موضوع الدولة في العراق قد أُشبع بحثاً وكتابةً.
ان حجم وسرعة التغيير الحاصل في العالم وبالذات بعد الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي جعل الامم المتحدة تصدر قرارها المرقم 72/242 في عام 2017 لتشير فيه الى هذا التغيير وتبعاته على النمو العالمي وتقوم باتخاذ إجراءات هيكلية ووظيفية لدراسة هذا التغيير وكيفية الاستفادة منه لصالح اهداف التنمية المستدامة.
ولإعطاء فكرة بسيطة عن حجم التغيير التكنولوجي في عالمنا المعاصر مقارنة بالماضي القريب وفي مجال واحد فقط هو الكومبيوتر فيكفي أن نعرف أن الموبايل الذكي الذي بات اليوم في يد كل واحد تقريباً، لديه سعة ذاكرة تفوق بمليون مرة سعة ذاكرة جهاز الكومبيوتر الذي كانت رحلة أبولو لاكتشاف القمر تستخدمه في عام 1969. كما أنه يستطيع انجاز العمليات بسرعة أكبر ب 100 ألف مرة مقارنة بكومبيوتر رحلة أبولو التي عُدت في حينها (وهي فعلاً كذلك) تدشيناً لعصر جديد في مجال التطور الانساني عموما.
طبقا للبحث الذي أجرته المجموعة المستقلة للأبحاث في العراق فأن أكثر من 85 بالمئة من العراقيين يمتلكون الان على الاقل هاتف ذكي واحد يمكنهم من الاتصال بالأنترنيت وهم في بيوتهم أو مدارسهم أو أماكن لهوهم.
وطبقا لبيانات وزارة الاتصالات فأن هناك اليوم 30 مليون مستخدم للأنترنت في العراق أي حوالي75 بالمئة من العراقيين، مقارنة بأقل من 1 بالمئة قبل عقدين من الزمن. وعلى الرغم من أن نوع وسرعة الخدمة لا يزالان من بين الاسوأ عالمياً حسب مراكز الابحاث المختصة، الا ان تحسناً كبيراً طرأ عليها في السنتين الماضيتين. أن الأنترنت هو البنية التحتية للثورة الرقمية التي دخلت العراق بقوة وبسرعة وغيرت في طريقها كثير من المفاهيم الاجتماعية كما سنوضحه في الحلقات القادمة من هذه السلسلة.
أن هذا التغيير الاجتماعي الذي نشهده نتيجة تطور التكنولوجيا ليس شيئاً جديداً في حياة المجتمعات. لقد سبق للزراعة ان غيرت الكثير من نواحي الثقافة الاجتماعية للبشر الذين كانوا يعتمدون على الصيد. ثم جاءت الثورة الصناعية واستخدام الطاقة بدل العضلات لتقلب رأساً على عقب كثير من المفاهيم الاجتماعية للشعوب. أما الثورة الرقمية والتي يقول المختصون أننا ما زلنا في مراحلها الأولية فقد بدأت فعلاً بأحداث تغييرات في مفاهيمنا الاجتماعية وفي مصادر السلطة الاجتماعية التقليدية (الاسرة والمدرسة والدين) والتي ظلت تلعب دوراً أساسياً في ثقافتنا وتنشئتنا الاجتماعية.
ان ما يشكو منه الآباء والمعلمين وغيرهم من عدم احترام هذا الجيل للثقافة الموروثة وتمردهم على القيم والتقاليد يبدو ظاهرة طبيعية أذا فهمناها ضمن سياقها التطوري. وإذا استطعنا أن نفهم هذا السياق ومسبباته فلربما نتمكن من التكيف بشكل أفضل لمواجهة العاصفة الاجتماعية التي باتت تطرق أبوابنا بشدة.
اضف تعليق