لم يسجل لنا التاريخ الانساني، ان أمة من الأمم، او شعبا من الشعوب، خضع لمشروع الاستلاب والتبعية، واستمر في التحكم في مصيره ومستقبله، وإنما هذا الخضوع زادها تخلفا وجمودا وتدهورا. لهذا فان انهاء الجمود والتخلف والتحرر من عقلية التقليد الأعمى، لا يبدأ بتحقير الذات والذوبان في الآخر...
لقد علمتنا التجارب، ونطقت مواخي الزمان، بأن المقلدين من كل أمة، المنتحلين أطوار غيرها، يكونون فيها منافذ وكوى لتطرق الأعداء اليها، وتكون مداركهم، مهابط الوساوس، ومخازن الدسائس، بل ويكونون بما أفهمت أفئدتهم من تعظيم الذين قلدوهم، واحتقار من لم يكن على مثالهم شؤما على أبناء أمتهم يذلونهم ويحقرون أمرهم، ويستهينون بجميع أعمالهم، ويصير أولئك طلائع لجيوش الغالبين وأرباب الغارات، يمهدون لهم السبل ويفتحون الأبواب، ثم يثبتون اقدامهم ويمكنون سلطتهم.
اختصر المصلح جمال الدين الافغاني بالكلام المذكور اعلاه، الأعمال والأنشطة التي يقوم بها الانسان أو النخبة المستلبة، في توهين الأمة، وتوسيع ثغراتها، والعمل على تضخيم مشكلاتها، من أجل ان تكون الفرصة سانحة لسيطرة العدو الحضاري على مستقبل الأمة ومقدراتها، فالانسان المستلب يتحول الى معول هدم في جسم الأمة، لأن عن طريقه تدخل وساوس الأعداء وبه تنتشر ثقافة العدو وقيمه، ولذلك اعتبره الأفغاني، بأنه منفذ من منافذ دخول الأعداء، وهو الذي يمهد السبيل، ويفتح الأبواب، لكي يثبت العدو اقدامه في جسم الأمة.
وإن منطق الغلبة والهيمنة، الذي سيطر على الانسان المستلب، أدى الى تسيير وتوظيف كل الامكانات والمعارف في سبيل تحقير الذات والبيئة الاجتماعية والحضارية التي ينتمي اليها وقد كان نموذج "الاستلاب طريق التغرب" أحد النماذج الأساسية، التي كان لها دور سلبي وخطير في مسيرة العالم العربي والاسلامي الحديث ومواجهته الحضارية مع الغرب، وذلك لأن الاستلاب، هو بمثابة الجذام، الذي يفتك بأبناء الأمة فتكا، وهو مرض مريع وشلل عام، يعمق خيار الخمول والتواكل والاعتماد على الآخرين في كل شيء.
والاستلاب هو عبارة عن حالة معرفية تحقر الذات ومعارفها وعلومها وتمجد علم الآخر وثقافته، وتسعى بكل امكاناتها للاندماج والذوبان فيها، حتى لو كان هذا الاندماج والذوبان على حساب الأمة ومصالحها ومستقبلها، وبالتالي فان المسافة جد قصيرة بين الاستلاب بوصفه حالة معرفية ونفسية، والتدهور وغياب البوصلة النظرية السليمة لعملية التقدم، وهو علامة من علامات العجز الذاتي والتوقف عن النمو العام وأكاد اقول ان الاستلاب هو الوجه الآخر للانحطاط فهما وجهان لعملة واحدة، لا ينفصل عنوانها الثقافي عن وجهها الاقتصادي والسياسي.
فالأوضاع التي تنتجها حالة الانحطاط في الواقع، وانسداد أفق المعالجة والخروج من هذه الحالة، وبحث الغالبية عن الحلول السهلة واليسيرة، كل هذه تؤدي الى هروب البعض من واقعه الصعب، واللجوء الى واقع الآخرين، اعتقادا منه، ان هذا الهروب واللجوء، هو الذي يخرجه من واقعه السيىء، الا ان عنصرية الآخر، ومركزيته التي تلغي ماعداه، تحول دون خروج الانسان من عجزه الذاتي، وانما تزيده عجزا وغربة وضياعا وتدهورا، وذلك لأن الذوبان في الآخر، لا يؤسس لوعي عميق وحضاري، يدفع بالانسان الى البحث الحاد في واقعه، وسبل الخروج من سيئاته وكوابحه، وانما تدفعه باتجاه الميوعة والتقليد والتبعية والخضوع والجمود.
لذلك لم يسجل لنا التاريخ الانساني، ان أمة من الأمم، او شعبا من الشعوب، خضع لمشروع الاستلاب والتبعية، واستمر في التحكم في مصيره ومستقبله، وإنما هذا الخضوع زادها تخلفا وجمودا وتدهورا.
لهذا فان انهاء الجمود والتخلف والتحرر من عقلية التقليد الأعمى، لا يبدأ بتحقير الذات والذوبان في الآخر، وانما البداية الحقيقية للتخلص من مشروع الاستلاب والتبعية، هو فهم في الذات واستيعاب معارفها ونظمها وطرائق تفكيرها، لأن هذا الفهم والاستيعاب، هو الذي يخلق الدافعية المطلوبة، والعوامل الكفيلة للخروج من عالم الجمود والتقليد والاستلاب.
وينبغي أن ندرك، ان الخطأ لا يرفعه خطأ مثله، فسيطرة الجمود والتقليد، لا يدفعنا الى الذوبان والاستلاب، لأن الذوبان كارثة تصيب الأمم كما الجمود والتقليد، فكما ان الجمود لا يصنع واقعا حسنا، كذلك الاستلاب لا يؤدي الى التغيير الايجابي، وإنما يزيد سيئات الواقع سوءا.
وعلى المستوى الفعلي فاننا نستطيع القول، إن المفكرين الذين قاموا بنقد التجربة الحضارية الغربية، على قاعدة الفهم الدقيق لحركة التطور التاريخي والمعرفي التي مر بها الغرب، استطاعوا بجدارة ان يقدموا الكثير من المساهمات الجادة في سبيل سبر أغوار الغرب ونقده النقد المعرفي المستوفي الشروط والمتطلبات، لذا لا يمكن ان تتم حركة نقدية معرفية للتجارب الحضارية المعاصرة، الا على قاعدة التوغل في معارفها، وادراك نظمها، وطرائقها في التفكير والادارة.
ولابد في هذا الاطار، من الابتعاد عن عمليات الاسقاط المعرفي والايدلوجي، لأنها لا تؤدي الا إلى المزيد من تضخيم الذات وتشويه تجارب الآخرين، وعدم ادراك حقائقها التاريخية والمعرفية.
ولعل هذا الخطأ المنهجي الضخم، الذي وقعت فيه حركات الاستشراق منذ المؤتمر الاول في عام (1873م)، حيث انهم أسقطوا منهجياتهم وفلسفاتهم الغربية على النموذج الشرقي، دون ان يكلفوا أنفسهم عناء البحث الموضوعي في المسألة الشرقية برمتها. لهذا كان رجال الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس (بريطانيا) ابان ذلك المؤتمر. يضعون نصب أعينهم المهمة السياسية للمعرفة. على أنها مكونات القوة والهيمنة والاحتواء على حد تعبير الدكتور (محسن جاسم الموسوي) في كتابه "الاستشراق في الفكر العربي".
فالاستلاب يعمل سلباً في اتجاهات الداخل والخارج، فعلى مستوى الداخل.. فإن الاستلاب ليس هو الحل الناجع للخروج من دائرة الجمود والسلبية والتقليد، وانما هو يزيدها تأثيراً وعملاً على مستوى الفرد والجماعة.
وعلى مستوى الخارج، فإن الاستلاب يحوّل صاحبه إلى طاقة سلبية.. تعيش العطالة في كل شيء. كما أنه لا يجعل صاحبه يقرأ التجارب الحضارية الإنسانية، قراءة واعية وموضوعية، ولذلك فهو لا يتمكن من الاستفادة من التجارب الحضارية المعاصرة.
وبهذا نستطيع القول، ان الاستلاب هو مقوض الوعي الرشيد للواقع. كما أنه احد أسباب فشل الكثير من مبادرات الخروج من دائرة الجمود والتقليد. فالإنسان المستلب لا يصنع تقدماً، وإن امتلك سلع التقدم، وذلك لأنه ليس مؤهلاً للمشاركة في عمليات التقدم الإنساني. وإن الظروف التي تصنعها حالة الاستلاب، لا تستطيع الدفع إلى البناء والتقدم، بقدر ما تساهم في اطفاء جذوة الحماسة والفعالية نحو العمل والتطوير لدى المجتمع.
وبالتالي فإن الاستلاب، هو آفة التقدم والتطور، كما انه الأرض الخصبة للهيمنة والسيطرة الخارجية.
واننا نعتقد، ان المشكلة التي يعانيها العالم العربي والإسلامي، لا تكمن في قوة الآخر، بل في ضعفنا وجمودنا وعجزنا، لذلك فإن الحل يبدأ بالتفكير الجريء في طرق الخروج من هذه العطالة المميتة.
فالاستلاب والخروج من الذات العقدية والحضارية، لا يفضي إلى التقدم والتطور المجتمعي، وانما يؤدي إلى بروز نهج وعقلية الاستنساخ الحرفي لتجارب الآخرين، وتقليدهم تقليداً أعمى بدون ادراك الخصوصيات واستيعاب المفارقات التاريخية والثقافية والاجتماعية. وبالتالي فإن خيار الاستلاب يعمق جذور الانحطاط. ويكرس خيارات الجمود والاستقالة من المسؤولية العامة. فلا تقدم حقيقي خارج ثقافة المجتمع وهويته الحضارية. ومن الضروري في هذا الاطار بيان ان الإسلام لا يلغي كسب الإنسان وابداعاته المتنوعة والمتعددة، وانما يحترمها ويقدرها نحو التفاعل الايجابي معها، ويوفر لها الرؤية المتكاملة في الوجود الإنساني.
ولهذا نجد أن التجارب الإنسانية، التي اعتمدت واستندت على خيار الاستلاب، لم تصل إلى تطلعاتها وطموحاتها الكبرى. وانما أضحت تعيش وضعاً غرائبياً... بحيث تحتضن في محيطها كل سلع الحضارة والتقدم، وفي ذات الوقت العقلية الإنسانية التي تقف خلف هذه السلع أو تستهلكها لم تخرج من قوقعتها وانحباساتها التاريخية.
فالاستلاب لا يخلق إنساناً حضارياً.. معتمداً على ذاته. وقادراً على اجتراح تجربته الإنسانية والحضارية، وانما يؤدي إلى إنسانية تبعية ـ ذيلية، تعيش الهزيمة النفسية بكل صورها ومظاهرها، ولا تمتلك القدرة الذاتية للانطلاق في مشروع التغيير والتطوير، فلا تقدم باستلاب نفسي ومفاهيمي وحضاري، وانما التقدم دائماً بحاجة إلى الانطلاق من شرط الاعتزاز بالذات الحضارية.
والسؤال المركزي هو: كيف يمكننا أن نتجاوز خطر الاستلاب؟
1ـ معرفة قيم ومضامين الذات الحضارية، والتواصل المستمر مع مبادئها وانجازاتها الحضارية ومفاهيمها الإنسانية. فلا يمكننا أن نتجاوز خطر الاستلاب إلا بالمزيد من التعمق في فهم مضامين الذات العقدية والحضارية.
2ـ ان يتحول التطلع إلى التقدم والتطور إلى مشروع عمل، بحيث لا يتم الاكتفاء بالأقوال أو التمنيات التي تؤكد على ضرورة التقدم والتطور. دون أن تسند هذه التطلعات بإرادة إنسانية مستديمة وعمل وكفاح متواصل نحو خلق وقائع وحقائق التقدم في المحيط الاجتماعي. فلا خروج من خطر الاستلاب إلا بنهضوية المجتمع وفعاليته وحيويته وعمله المتواصل لإنجاز طموحاته وتطلعاته الحضارية.
3ـ لا شك ان التقوقع والانطواء، يؤديان في المحصلة الأخيرة إلى الاستلاب والجمود. لذلك فإن الخروج من خطر الاستلاب بحاجة مستمرة إلى التواصل الدائم مع الثقافات الإنسانية. وخلق منظومة ثقافية حوارية تواصلية. تعتني بعملية الانصات والحوار، وتنبذ كل خيارات الاقصاء والعنف في التعامل بين الثقافات الإنسانية، فبمقدار تواصلنا المعرفي وحوارنا الثقافي مع الآخرين نتجاوز خطر الاستلاب. وذلك لان التجارب علمتنا أن الانطواء يفضي إلى الاستلاب كما هو الذوبان والانبهار، بينما العقل التواصلي والثقافة الحوارية، هي التي تتمكن من استيعاب كل عناصر الحيوية والفعالية لدى الثقافات الإنسانية.
اضف تعليق