إيران تواجه تزايد في نمط التهديدات الاقليمية والدولية تجعلها، ولربما لأول مرة منذ عقود تواجه مرحلة النزول من القمة بعد ان كانت في مرحلة صعود استراتيجي دائم لثلاثة عقود. لذا أكرر طرح السؤال بصيغة أخرى: هل منع تشدد الخط الثوري الايراني، إيران من ان تغتنم الفرصة التي كانت متاحة...

لا شك ان إيران باتت أحد أهم اللاعبين الاقليميين خلال العقدين الماضيين بعد أن راكمت عناصر قوتها الاستراتيجية في العقد الاخير من القرن الماضي نتيجة استثمارها الصحيح للظروف الاقليمية والدولية السائدة آنذاك.

ومع نهايات العقد الماضي كانت إيران أهم لاعب اقليمي بسبب انحسار اهمية المنطقة لأمريكا، وضعف اللاعبين الاقليميين المنافسين وحصاد سنين من الاستثمار الايدلوجي في المنطقة. وكأي لاعب إقليمي يفتقر الى الامكانات الاقتصادية والاستراتيجية التي تتمتع بها الدول العظمى فقد واجهت ايران تحديات جيو استراتيجية واقتصادية كبيرة نتيجة تمددها الكبير الذي سبب لها مشاكل كثيرة بدأت تبرز مع نهايات العقد الماضي.

بعد ان بات التهديد الايراني لمصالح (إسرائيل) وأميركا من جهة ولدول الاقليم من جهة أخرى يبرز بشكل واضح ويهدد التوازن الاستراتيجي بجدية. ويبدو ان أيران تجاهلت التهديدات التي بدأت بالبروز منذ بداية العقد الحالي نتيجة مزيج من العوامل المحلية والاقليمية والعالمية والتي على ما يبدو ستزداد بشدة خلال قادم الأشهر بما يهدد ما راكمته ايران من قوة استراتيجية منذ تسعينات القرن الماضي.

من هنا أطرح تساؤلا قابل للنقاش مفاده، هل اضاعت ايران فرصتها الاستراتيجية لاستثمار قمة ما بلغته من قوة بعد مجيء ادارة بايدن مباشرة؟ قبل الاجابة على هذا السؤال لابد من استعراض سريع لاهم المتغيرات المحلية والاقليمية والدولية التي جعلتني أطرح هذا السؤال:

1- التغيير في المزاج الشعبي الداخلي والاقليمي نحو الخطاب المؤدلج. اعتمدت ايران لفترة طويلة على التشدد في الخطاب الايديولوجي لكسب مزيد من المتحمسين سواء داخل ايران وخارجها. هذا الاسلوب الذي كان سائدا حتى في بلداننا العربية لم يعد مجديا في ظل مجيء اجيال جديدة لم تشهد الحروب العربية – (الاسرائيلية)، ولا حرب ايران-العراق، ولا غزو العراق للكويت وما اعقبها من تداعيات. كما ان توفر وسائل التواصل مع العالم رفع كثيرا من سقف توقعات تلك الاجيال باتجاه الجوانب المادية وصاحب ذلك تناقص في القدرات الاقتصادية لايران وباقي الدول (التي ينتشر فيها النفوذ الايراني) على تحقيق توقعاتها. ان هذا الجيل الذي خرج بالالاف في شوارع ايران والعراق ولبنان لم يعد يقتنع بتأجيل مطالبه لحين (تحرير فلسطين) او (انتصار الثورة)! وكلما مضى الزمن أكثر كلما زاد التحدي الذي تواجهه الايديولوجيا والشعارات في مقابل الامن والرفاه الماديين.

2- التغيير في الخارطة السياسية الداخلية الامريكية. لعقود من الزمن تميزت الخارطة الداخلية الاميركية بنوع من الديموقراطية لم يعد ممكنا خلال العقدين الماضيين بسبب شدة الاستقطاب الداخلي. لقد كان حمائم الجمهوريين وحمائم الديمقراطيين يشكلون اغلبية الطيف السياسي المؤثر على السياسة الخارجية الامريكية وبالذات تجاه ايران.

اليوم اختفى هؤلاء الحمائم وباتت الساحة الاميركية الداخلية مسيطر عليها من قبل المتشددين. يكفي ان نقارن بين استجابة اعضاء الكونغرس من الجمهوريين نحو اقتحام الكونغرس من قبل انصار ترامب وبين استجابة الجمهوريين أبان فضيحة ووترغيت التي تمر ذكراها السنوية هذه الايام. في تلك الفضيحة وقف اعضاء الكونغرس من الجمهوريين مع الديموقراطيين ضد رئيسهم الذي كان في المنصب (نيكسون) حتى أُجبر على الاستقالة.

أما اليوم فعلى الرغم من قناعة كثير من النواب الجمهوريين بخطأ ما قام به انصار ترامب، الا ان الجميع يخشى انتقاد رئيسهم (السابق) والانتصار لمبادئ الديموقراطية، لخشيتهم من شعبية ترامب والاستقطاب الشديد الذي يعيشه الجمهور الامريكي. لذا فان اي ادارة امريكية تتفاوض مع ايران ستكون يدها مقيدة بالشارع والسياسة المستقطَبَتَين بشدة.

3- التغيير في الخارطتين الاقليمية والدولية. لاسباب كثيرة لا يسع المجال لذكرها هنا، فأن تغيرات كبيرة حصلت على الساحة الدولية والاقليمية بخاصة بعد الجائحة حدّت كثيرا من قدرة ايران على ممارسة نفوذها المعتاد. فتراجع خطر داعش، والتنافس الامريكي الصيني على المنطقة، وتراجع الدور الروسي بسبب الحرب مع اوكرانيا، وزيادة الاهمية الجيوستراتيجية للمنطقة في ضوء ذلك الصراع وتداعياته المحتملة، وتنامي امكانات ايران النووية، فضلاً عن تنامي اهمية نفط وغاز المنطقة كلها عوامل تدفع اميركا ومن ورائها اوروبا الى اعادة تموضعهما باتجاه مزيد من التركيز على المنطقة وعودة الشراكات الاستراتيجية مع الدول التي طالما لعبت دورا مهما في المحافظة على المصالح الأميركية (اسرائيل والحلفاء العرب التقليديين). ان الزيارة المرتقبة التي سيقوم بها بايدن ستمثل انعطافة استراتيجية مهمة ليس في الشأن الاقتصادي او السياسي فحسب بل وقبل ذلك في الشأن الامني الذي يرتبط بمواجهة النفوذ الايراني.

الخلاصة فأن أيران تواجه تزايد في نمط التهديدات الاقليمية والدولية تجعلها، ولربما لاول مرة منذ عقود تواجه مرحلة النزول من القمة بعد ان كانت في مرحلة صعود استراتيجي دائم لثلاثة عقود. لذا أكرر طرح السؤال بصيغة أخرى: هل منع تشدد الخط الثوري الايراني، ايران من ان تغتنم الفرصة التي كانت متاحة لها في الاشهر الخمسة الاولى من هذه السنة حينما كانت ايران وامريكا على اعتاب ابرام صفقة نووية جديدة؟

لقد كنتُ من بين المتفائلين بقدرة السيد رئيسي وطاقمه على ابرام هذه الصفقة لكن يبدو ان الاستقطاب الحاد في امريكا والذي لم تدركه ايران، وتغير الظروف الدولية التي تجبر امريكا وحلفائها الاوربيين والاقليميين على تغيير استراتيجيتهم في المنطقة كانت اقوى من أرادة رئيسي وطاقمه وبايدن وطاقمه على ابرامها. للاسف وكما قلت في مقال سابق فان طبول الحرب باتت تُسمع اقوى من اي وقت مضى، وكل من يفرح بوقوعها سيكتشف خطأه، كما ان الجلوس على التل ومجرد مراقبتها خطأ فادح ايضاً.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق