حكم الأكثرية ينبغي أن يكون مقيدا، بان يكون حكمهم حسب مقتضيات (العدالة في الحكم) فليس للأكثرية بما هي أكثرية أن تظلم نفسها، أو أن تظلم الأقليات، وأن تظلم سائر الأمم. ومن صور ظلم الأكثرية أن تختار حاكما مستبدا دكتاتوريا، أو أن تختار الأكثرية شخصا جاهلا أو مجموعة...
يختلف مفهوم الديمقراطية من بلد إلى بلد، كل بحسب نظام الحكم، وطرق التفكير السياسي، وقد يجتمع في البلد الواحد أكثر من تفسير لمفهوم الديمقراطية. فقد تعني الديمقراطية (حكم الأكثرية) بمعنى أن الأكثرية السكانية التي لها خصائص محددة هي التي يكون لها القرار السياسي الأول في البلاد.
وقد تعني الديمقراطية (التمثيل والانتخاب) بمعنى أن الأكثرية لا تحكم عادة مباشرة، بل تحكم من خلال توكيل الأكثرية لمجموعة عبر نظام كنظام الانتخاب، أو الاعتماد على التفويض، أو الإذن، أو على التعاقد معهم، أو على توليتها لهم عليها. وفي نظام الانتخابي يجري انتخاب الحاكم والمسؤولين والنواب، وكذلك محاسبتهم، وهو من مبادئ الديمقراطية.
وقد تعني الديمقراطية (وجود المعارضة البرلمانية أو حكومة الظل) التي تراقب أداء الجهاز الحاكم، وتتشكل عادة من غير الحزب الحاكم، وترفع تقارير دورية للجهات المعنية، ومنها الرئيس نفسه، وللصحافة والرأي العام، كما أنها تشكل في بعض الدول البديل الجاهز لتولي أمر الحكومة، فيما لو استقالت أو أقيلت. وقد تعني الديمقراطية (فصل السلطات الثلاثة) التشريعية والتنفيذية والقضائية. وقد تعني (التداول السلمي للسلطة) أو (حكومة القانون) أو (سيادة الأمة والشعب) وغيرها من المفاهيم والتعريفات.
وبحسب المفكر الإسلامي السيد مرتضى الشيرازي فان مفهوم الديمقراطي تطور إلى ما يعرف بـ(الديمقراطية الرشيدة) ومن صور الديمقراطية الرشيدة هي: -
1. إن (حكم الأكثرية) ينبغي أن يكون مقيدا، بان يكون حكمهم حسب مقتضيات (العدالة في الحكم) فليس للأكثرية بما هي أكثرية أن تظلم نفسها، أو أن تظلم الأقليات، وأن تظلم سائر الأمم. ومن صور ظلم الأكثرية أن تختار حاكما مستبدا دكتاتوريا، أو أن تختار الأكثرية شخصا جاهلا أو مجموعة من الجهلة والسفهاء ليمثلوها في المجلس أو ليكونوا الوزراء أو الرئيس. ومن صور ظلمها للأقليات هو أن تجبرها على إتباع دين الأكثرية، أو على التخلي عن معتقداتها، أو بحرمانها من حقوقها المشروعة وغيرها.
وبحسب المفكر الشيرازي فان (منطلق العدالة في حكم الأكثرية) هو أحد المنطلقات الأساسية التي دعت إلى تبني أطروحة (السلطات العشر والبرلمانيات المتوازية) كوننا نجدها بما تضمنته من بنود جوهرية أقرب للعدالة من السلطات الثلاثة، ومن مختلف الأنظمة الدستورية في عالم اليوم. كما أنها كانت وراء اقتراح السلطات الفرعية العشر أيضا.
2. إن (حكومة القانون والأكثرية) مقيدة أيضا بان تكون في إطار المبادئ الإنسانية العليا، والتي يقصد بها المبادئ التي تدعو إليها فطرة الإنسان بما هو إنسان، وهي مبادئ العدل والإحسان، والكرامة الإنسانية، والإصلاح في مقابل الإفساد والوفاء بالعهود. كما قال الله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) وقال (ولقد كرمنا بني آدم) وقال (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) وهو ما أفضى بنا إلى تأسيس السلطة العاشرة وهي (سلطة المبادئ الإنسانية العليا).
3. إن (حكومة الأكثرية والقانون) هي في إطار حكم العقل في دائرة المستقلات العقلية، ومن المستقلات العقلية الرجوع إلى أهل الخبرة في كل ما يحتاج إلى خبرة ودراية ومعرفة، وهو ما يفضي بنا هذا إلى السلطة الثامنة (سلطة التكنوقراط) بل إلى العديد من السلطات الأخرى كالسلطة الاقتصادية (السابعة) وغيرها.
4. إن (حكومة القانون في إطار المساواة الموضوعية) أي القانونية، لا المساواة الحسابية أو العددية، التي لا تأخذ بعين الاعتبار الفروق في المؤهلات الذاتية والمكتسبة، فتفرض مثلا إعادة توزيع الدولة للثروة على جميع الناس مع قطع النظر عن مقدار كدهم وجهدهم وعلمهم وتخطيطهم وكفاءتهم، كما تنادي به الاشتراكية، فالمراد بالمساواة أمام القانون من حيث الحقوق والواجبات الإنسانية العامة.
5. (التداول السلمي للسلطة) لكن لا على أساس نظام المحاصصة الطائفية أو الحزبية، وذلك لان المحاصصة الطائفية أو الحزبية تناقض مطلقا في الجملة روح الديمقراطية والشورية المبنية على أصل العدالة والمساواة، وعلى منح كافة أفراد الشعب حقوقهم بحسب المعادلة التي قررها تعالى بقوله (لا تظلمون ولا تظلمون).
6. (اللامركزية غير المنفلتة) أما المنفلتة فهي التي يتمخض عنها المذهب النفعي، واقتصاد السوق الحر المنفلت عن الرقابة.
7. سيادة الأمة والشعب: تارة يقصد بسيادة الأمة أن الشعب مصدر كل السلطات (أي التشريعية والقضائية زائدا السلطة التنفيذية) وأن السيادة ترجعه إليه أولا وأخيرا. فهذا هو ما يقوله الديمقراطيون العلمانيون، وأخرى يقصد بها أن الشعب هو السيد نفسه، لا الملوك والسلاطين والحكام بالوراثة أو الانقلاب العسكري أو المؤامرات ولا النخبة الأرستقراطية ولا الثيوقراطية، ولكن سلطته على نفسه لا يستمدها من ذاته، بل يستمدها من خالق الكون جل اسمه، كما قال الله تعالى (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات...)، و(وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض، فمن يكفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا...).
لكن استمداد الشعب سلطته من الله تعالى لا يعني بالضرورة أن تفرض عليه السلطة قسرا من أعلى، بل يمكن أن تكون بان يفوض الخالق للناس أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، فلا تلازم بين كون الحاكمية لله وبين أن تفرض سلطة رجال الدين أو الملوك أو غيرهم على الناس، بل يمكن أن تكون السلطة بالانتخاب، وذلك بان يفوض الله تعالى في زمن الغيبية الكبرى للناس أن ينتخبوا من يرونه الإصلاح لإدارة شؤون الحكم والبلاد.
...........................................
اضف تعليق