صحيح ان المجتمع العراقي شهد بعد ذلك محاولات للاصلاح، لكنها كانت محاولات سطحية لا تمت الى جوهر المشكلة اي التخلف الحضاري او الخلل في المركب الحضاري، ولهذا لم تسفر تلك المحاولات عن نتائج ايجابية جذرية. واليوم نشهد نفس الشيء مع تصاعد اصوات بالاصلاح، لكنها لا تسلك طريقا حضارياً للإصلاح...
يعود الكثير من الظواهر السلبية في المجتمع العراقي، بعد التحليل العميق، الى غياب الوعي الحضاري، في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية وغيرها. وهذا امر ليس بالجديد على المجتمع العراقي، بل يعود الى قرون بعيدة، على الاقل منذ احتلال المغول لبغداد في سنة ١٢٥٨ م. فمنذ ذلك التاريخ بدأ الخلل الحاد يتسرب الى المركب الحضاري للمجتمع العراقي، الامر الذي ادى الى تعطل الحركة الحضارية للمجتمع، ومن ثم اصابته بالتخلف الحضاري. وبسبب طبيعة المجتمع العراقي بوصفه "مجتمع كتاب" فان بواكير التخلف الحضاري تمثلت في التخلف في فهم الكتاب فهما حضاريا، الذي كان هدفه في البداية اقامة مجتمع متحضر، لكن انتهى الامر بتجميد فاعلية الكتاب الحضارية، وتراكم طبقات من التدين الشعبي المطبوع بعناصر التخلف في مختلف مجالات الحياة والمجتمع.
صحيح ان المجتمع العراقي شهد بعد ذلك محاولات للاصلاح، لكنها كانت محاولات سطحية لا تمت الى جوهر المشكلة اي التخلف الحضاري او الخلل في المركب الحضاري، ولهذا لم تسفر تلك المحاولات عن نتائج ايجابية جذرية. واليوم نشهد نفس الشيء مع تصاعد اصوات بالاصلاح، لكنها لا تسلك طريقا حضارياً للاصلاح، ولا تعالج الخلل الحاد في المركب الحضاري، وتستغرق في تفاصيل ومضاعفات التخلف الحضاري دون معالجة التخلف الحضاري نفسه.
يكاد ينحصر الطريق الى اصلاح الاوضاع في العراق باصلاح الخلل الحضاري للمجتمع العراقي. وهذا يتطلب، من بين امور اخرى كثيرة، اشاعة الوعي الحضاري في المجتمع. ينبثق الوعي الحضاري ابتداءً من منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري وعناصره الخمسة اي الانسان والطبيعة والزمن والعلم والعمل.
واذا كان الوعي ينطلق من المعرفة بالقيم فانه يتجذر ويتجسد بالسلوك والعمل. ولهذا فان اشاعة الوعي الحضاري مسألة معرفية وسلوكية في نفس الوقت. من شأن الوعي الحضاري ان يضبط سلوك الفرد والمجتمع فيما يخص عناصر المركب الحضاري الخمسة. وهذه هو الهدف المرتجى من اشاعة الوعي الحضاري، اي ضبط السلوك الفردي والمجتمعي ازاء الانسان والطبيعة والزمن والعلم والعمل، في مختلف مستويات ومجالات الفعل الاجتماعي والسلوك الفردي.
تؤدي اشاعة الوعي الحضاري الى جعل الكتلة البشرية صاحبة الوعي الحضاري قوة مادية قادرة على تغيير الاوضاع واصلاحها واقامة المجتمع المتحضر ومن ثم اقامة الدولة الحضارية الحديثة.
نحتاج في مجتمعنا العراقي الى اشاعة الوعي الحضاري على مختلف المستويات وبمختلف الوسائل. في الحالة الطبيعية من الممكن ان تقوم الدولة بهذه المهمة عن طريق المدارس. لكن لا يمكن التعويل كثيرا على الدولة في هذا المجال لان حالة التخلف تشمل الدولة ايضا.
صحيح انني قمت في اثناء رئاستي لشبكة الاعلام العراقي ببعض الفعاليات والاعمال لاشاعة الوعي الحضاري داخل الشبكة وخارجها، وقد تحققت بعض النتائج الملموسة في هذا المجال، وهذه محاولة يمكن ان تتكرر في مجالات اخرى ايضا.
لكن هذا لا يعفي القطاع غير الحكومي من القيام بدوره الخاص في هذا المجال. وهنا اشير الى دور المثقفين والكتاب والفنانين والادباء ورجال الدين المتنورين في اشاعة الوعي الحضاري. ومما يشجع على هذا ان العراق يملك الكثير من هؤلاء من اصحاب الوعي الحضاري القادرين بجهودهم الشخصية على المساهمة الايجابية في اشاعة الوعي الحضاري.
وفي ذهني الكثير من الاسماء اللامعة في هذا المجال من الذين يملكون كل المؤهلات المطلوبة ليكونوا روّاد الوعي الحضاري. صحيح انهم قد تعوزهم الامكانيات المادية لانجاز عمل واسع النطاق، الا ان هذا لا يعني عدم قدرتهم على التأثير. قد لا يتطلب الامر في هذه المرحلة اكثر من ان يقرروا القيام بذلك.
اضف تعليق