يتسم العصر النووي الثالث بأن مستوى التحدي يختلف لأنه يتشكل من خلال مجموعات كاملة من التقنيات والأسلحة التمكينية، اذ يعد الكثير منها غير نووي ومزدوج الإستخدام، وسبب ذلك كله التحولات الكبيرة التي حدثت في فضاء المعلومات النووية وهي ما يمكن عدها ظاهرة عالمية. نتجت الأزمة الروسية...
لم يعد بالإمكان من وجهة نظرنا دراسة اي موضوع بعيداً عن مواقع التواصل الإجتماعي نتيجة ما تتميز به الأخيرة من سرعة نقل الأخبار وتسارع وتيرة الإندماج الفكري الذي تحققه وهو ما يؤدي الى بناء تيار فكري جديد يتسم بالشفافية والوضوح، الا انه لا يستند الى اي من المقومات المعرفية والأكاديمية المتعارف عليها من اجل بناء فلسفة عامة تحيط المتلقي بما يدور بما حوله من أحداث إقليمية ودولية مستمرة، فقد أصبح المتلقي من تلك المواقع ليس سوى إنموذجاً للتسويق وحاجة ماسة للمروجين المدفوعين مسبقاً بإرادات أو أجندات تحاول عبثاً من تشتيت أفكارهم والذهاب بعيداً عن فحوى الأصل في تتبع الأحداث.
ولكي نستطيع ان نركز على أصل الأحداث والمتغيرات التي تدور حولنا يمكن ان نجد ان العالم متجه الى عصر نووي ثالث ولكن هل سيتحقق من خلال الاستمرار بالتهديد النووي ام يفشل؟ ام هل سيتحقق بأطر ووسائل أخرى، وهذا ما يرجع بنا الى مرحلة العصر النووي الأول والتي على اساسها اقيم النظام النووي العالمي في ظل فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق وهو ما ركز على سباق التسلح النووي بين البلدين وهذا واضح، ومن ثم هناك من يرى ان العصر النووي الثاني جاء بعد ذلك على شكل الانتشار الإقليمي والارهاب النووي الا انه يمكن عده وصفاً تاريخياً غير متكامل، كما يستمر الكثيرون ان الفترة التي اعقبت 11 سبتمبر 2001 وحتى اللحظة بأنها عصراً نووياً ثالثاً بإمتياز.
الا انه ومن المؤكد بأن قواعد اللعبة النووية تختلف في تجربتها عن سابقيها، اذا يمكن عد الصفة البارزة في العصر النووي الثالث تدور حول أهمية وتأثير التقنيات التخريبية الجديدة، اي ان تأثير التطورات المتسارعة في التكنولوجية العسكرية على النظام النووي العالمي سارع في ظهور العصر النووي الثالث.
يتسم العصر النووي الثالث بأن مستوى التحدي يختلف لأنه يتشكل من خلال مجموعات كاملة من التقنيات والأسلحة التمكينية، اذ يعد الكثير منها غير نووي ومزدوج الإستخدام، وسبب ذلك كله التحولات الكبيرة التي حدثت في فضاء المعلومات النووية وهي ما يمكن عدها ظاهرة عالمية.
نتجت الأزمة الروسية – الأوكرانية الأخيرة الكثير من المعطيات التي على اساسها تندرج تسارع الأحداث بين البلدين، ولأن من المعلوم مسبقاً ان تلك الأزمة لم تكن وليدة اللحظة كما لم تكن نتاجاً إقليمياً بحتاً، فقد وجد الكثير من الفاعلين الدوليين في هذا الموضوع متنفساً عما كانوا يحاولون تحقيق مالم يحققونه في عام 2014 وهو تأريخ استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم واستعادتها من أوكرانيا.
والسؤال الأهم في الحرب الروسية-الأوكرانية هل تمثل الحرب بينهما العصر النووي الثالث بكل ما تعنيه من تغير في مفاهيم الاستخدامات الحديثة في التهديد النووي؟، في واقع الأمر فإن المثال الأبرز على فشل نظرية التهديد النووي هي الحرب الروسية– الأوكرانية، ذلك ان نفس قواعد الحرب المتبعة في الحرب الكورية وحرب الخليج الثانية والثالثة والحرب الأمريكية– السوفيتية ستطبق في الحرب الروسية الأوكرانية بفارق، إضافة الحرب السيبرانية بين البلدين والذي سيضفي طابعاً جديداً لإشكال الحروب بين البلدان لا سيما ان الأسلحة ذات الطابع التكنولوجي والتمكينية اسهمت في استمرار أوكرانيا في مواجهة روسيا بدعم من الدول الغربية وهو ماساهم بصورة مباشرة في اطالة الحرب.
حيث ان أوكرانيا دمجت بين المواجهة التقليدية لصد روسيا وبين التقنية الحديثة لاستخدام الأسلحة التمكينية مستغلة التحولات الكبرى في فضاء الأسلحة بصورة عامة والأسلحة النووية بصورة خاصة والتي عجزت الأخيرة بسيطرة روسيا على الموقف بالتهديد باستخدامها، فنرى في طبيعة الحال ان نظرية التهديد النووي فشلت في الحرب الروسية– الأوكرانية وهو ما جعل روسيا تتخلى عن هدفها المتمثل بالسيطرة الكاملة على الأراضي الأوكرانية والذهاب الى أجزاء من الأراضي الأوكرانية الموجودة في الشرق والجنوب.
وهو ما سيدفع بالتالي اللجوء الى انهاء الصراع الى ثلاث سيناريوهات، الأول الذهاب الى تسوية عن طريق التفاوض والانسحاب من بعض الاجزاء التي كانت موجودة قبل الحرب، والثاني احتفاظ بعض الاقاليم بحكم ذاتي اكبر أو استقلالها، والثالث انحسار الحرب الى صراع مجمد مستدام على طول خطوط التماس بين البلدين كما هو الحال بين الكوريتين.
الا ان الأمر في طبيعة الحال دائماً ما يكون وراء الحرب طرفاَ ثالثاَ مستفيداَ فرسمياً قدمت بولندا بأوراقها الى حلف شمال الأطلسي بطلب الانضمام الى الحلف في ظل تصاعد الحرب وهو ما نراه ترجيحا كونه السبب المباشر في دفع الدول الغربية بإتجاه الحرب واستفزاز روسيا اتجاه اوكرانيا، بينما كان هدف الجدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة دخول بولندا الى الحلف، وهما كان الهدف من وراء دعم الحرب وديمومتها من اي طرف، فقد اثبتت تلك الحرب فشل نظرية التهديد النووي في ظل العصر النووي الثالث وهو ما يوجب مراجعة عدم جدوى القوة النووية التي تمتلكها الدول الكبرى في تحقيق الإستقرار وانهاء الأزمات والصراعات والحروب من خلال التهديد باستخدامها وخلق توازن عالمي.
الا انه في طبيعة الحال فأن النتيجة المستوحاة جاءت على عكس ما حاولت روسيا ان تهدد به من استخدام القوة النووية وفشلت به، ذلك ان الحرب مع اوكرانيا افرزت تحالف توازن موسع سيبقى لفترة طويلة بعد انتهاء الحرب بين البلدين وهو التحالف الغربي الموجه ضد روسيا، وهو ما يؤيد استمرار الوسائل الجديدة للعصر النووي الثالث من خلال استخدام التقنيات ومظلات الأمن السيبراني وادوات التحكم التكنولوجي العسكري والحرب البكترويولوجية.
اضف تعليق