ان سير المجتمع نحو الدولة الحضارية الحديثة ينطوي على مئات المفردات السلوكية التي تشكل اتجاهات سلوكية عامة على صعيد الفرد والمجتمع والدولة. ومن مجموع هذه المفردات تنبثق الدولة الحضارية الحديثة التي ستكون تتويجا لظهور المواطن الفعال والمجتمع حسن التنظيم ومؤسسات الدولة الفاعلة وغير ذلك...
يهمني ان يتذكر الناس، ومنهم قرّائي على وجه الخصوص، ان سير المجتمعات البشرية نحو الدولة الحضارية الحديثة، يتصف بكونه سيرا تكامليا تراكميا. فالمجتمعات تسير بسرعات متفاوتة، وتراكم تطورها وتكاملها بصورة تدريجية، حتى تصل الى احدى محطات التطور.
ينطبق هذا على مستوى تطور ظاهرة الدولة، التي مرت المجتمعات في الطريق اليها بالمراحل التالية: السلطة الاجتماعية، ثم السلطة السياسية، ثم دولة المدينة، ثم الدولة السلطانية، ثم الدولة الحديثة، ثم الدولة الحضارية الحديثة، وهناك عنوان تالٍ للدولة يأتي بعد الدولة الحضارية الحديثة، لا انوي الحديث عنه الان، لكنه موجود في سياق التطور التاريخي للدولة.
والمجتمعات لا تصل الى اية حالة من هذه الحالات بصورة فجائية او بسرعة، وانما تتطور بصورة تدريجية من خلال تراكم خبراتها وانجازاتها. وهذه الانجازات قد تتعلق بامور صغيرة في المجتمع، قد لا يلحظها الانسان في لحظتها، وقد تتعلق بامور كبيرة يمكن ملاحظتها على الفور. وهذه المنجزات التكاملية قد تكون فردية او جماعية، سياسية او اقتصادية، علمية او فنية، وهكذا.
ولهذا لا اتوقع من القراء ان يتصوروا ان الدعوة الى الدولة الحضارية الحديثة في العراق تعني حصول طفرة في السير التكاملي والتراكمي للمجتمع. ومثل التصور الخاطيء، وهو وهم، يجعل المواطن العراقي يقفز فورا الى حالة اليأس من امكانية قيام الدولة الحضارية الحديثة في العراق بالمقارنة مع الواقع المعاش. والخطأ في هذا التصور هو التوهم بامكانية تحقق هذه المرحلة من تطور الدولة بصورة فجائية تشبه الطفرة الوراثية، وهذا ما لا يمكن ان يكون.
ان تعود الناس على غسل اسنانهم كل صباح، مثلا، هو خطوة نحو الدولة الحضارية الحديثة؛ كما هو الحال في تعودهم على الامتثال للقوانين وعدم مخالفتها. كما ان تقبل الناس الاعتذارات المتبادلة فيما بينهم حين يخطأ كل واحد منهم ازاء الاخر هو خطوة اخرى نحو الدولة الحضارية الحديثة، مثلها مثل قيام احزاب سياسية على اساس برامج عملية وليس على اساس ارتباطات طائفية او عرقية او عائلية.
ان سير المجتمع نحو الدولة الحضارية الحديثة ينطوي على مئات المفردات السلوكية التي تشكل اتجاهات سلوكية عامة على صعيد الفرد والمجتمع والدولة. ومن مجموع هذه المفردات تنبثق الدولة الحضارية الحديثة التي ستكون تتويجا لظهور المواطن الفعال والمجتمع حسن التنظيم ومؤسسات الدولة الفاعلة وغير ذلك.
لذلك لا داعي للشعور باليأس والاحباط في مقابل الدعوة الى الدولة الحضارية الحديثة، لانه في لحظة ما يمكن القيام بعدد من المفردات المذكورة، وفي لحظة تالية سيكون من الممكن انجاز مفردات اخرى، وهكذا سوف تتراكم المنجزات الحضارية للفرد والمجتمع ومؤسسات الدولة القائمة، وسوف يؤدي هذا التراكم الى ظهور الدولة الحضارية الحديثة تدريجيا في المجتمع.
قد يستغرق الامر عشرين سنة مثلا؟ او اقل او اكثر، انما المهم ان يتمكن المجتمع من خلال افراده الواعين ومؤسساته الجماعية من مراكمة هذه الخبرات او المنجزات بصورة فردية او جماعية.
واذا جمعنا هذه الفكرة مع فكرة الخطوات الثلاث نحو التغيير التي عرضتها في مقال سابق، فسوف تتكامل اطروحة العمل من اجل اقامة الدولة الحضارية الحديثة.
والخطوات الثلاث هي: تشكيل امة التغيير، وتغيير المحتوى الداخلي للمجتمع عن طريق الدعوة والتثقيف، واخيرا الامساك بالسلطة بالطريق الدستوري الحضاري. وحين يصل المجتمع في سيرة التراكمي الى الخطوة الثالثة، فان حركة المجتمع نحو الدولة الحضارية الحديثة سوف تتسارع وتتراكم منجزاتها على هذا الطريق بسبب الدور الكبير الذي يمكن ان تلعبه السلطة بمختلف مؤسساتها، وخاصة المؤسسة التربوية، في بناء الدولة الحضارية الحديثة التي ستقف على قاعدة عريضة من المنجزات الحضارية التي تحققت في السابق.
اضف تعليق