تعيد الازمات الكبيرة خاصة الحروب، تصحيح الكثير من التصورات والالتباسات التي تتسبب بها تعقيدات العلاقات والمصالح بين القوى الدولية والاقليمية، اعتدنا نحن في الشرق الاوسط قراءة التحالفات والمواقف من منظور جامد يعتمد ثوابت تحليلية مركزها مسلّمة التابع والمتبوع دونما ترك مساحات مرنة، المرونة هنا تتعلق باختلاف المصالح بعد تطابقها...
تعيد الازمات الكبيرة خاصة الحروب، تصحيح الكثير من التصورات والالتباسات التي تتسبب بها تعقيدات العلاقات والمصالح بين القوى الدولية والاقليمية، اعتدنا نحن في الشرق الاوسط قراءة التحالفات والمواقف من منظور جامد يعتمد ثوابت تحليلية مركزها مسلّمة التابع والمتبوع دونما ترك مساحات مرنة، المرونة هنا تتعلق باختلاف المصالح بعد تطابقها، وتفاوت التقديرات الامنية ودرجة الثقة باتجاهات المستقبل القريب والبعيد.
فلا حليف يبقى ثابتا في مواقفه، ولا تابعا يستمر في الدوران في حلقة التبعية لأمد لانهاية له، الامر يتعلق بالاشخاص والمؤسسات والمتغيرات التي هي الثابت الوحيد، نحن في عالم سائل يتغير كل يوم، ومع كل متغير وأزمة، يكتشف الاذكياء مساحات جديدة لتعديل الادوار وتوسيع المصالح واستحصال اعترافات بقيمة ما يريدون وما يفعلون.
كشفت الحرب الاوكرانية عن حقائق جديدة سيكون لها مفعول مؤثر في العلاقات الدولية للمرحلة القادمة، اول هذه الحقائق عودة القيمة العليا للوقود الاحفوري (النفط والغاز والفحم) كعنصر حاسم في تقييد واطلاق يد الدول لاتخاذ المواقف اللازمة، اعتماد اوروبا على الغاز والنفط الروسي منع الاوربيين من المضي قدما في الضغط على روسيا لوقف حربها على أوكرانيا، أمن الطاقة هذا أضعف موقف الامريكيين والاوربيين ورفع رصيد وقيمة منتجي الطاقة الكبار لاسيما الشرق اوسطيين، السعودية، العراق، الامارات، قطر الكويت، ايران.
سوق الطاقة العالمية ستفرض قواعد وحسابات جديدة في التعامل مع هؤلاء المنتجين ومصالحهم الخاصة وادوارهم السياسية بعد ان خفت الاهتمامات بالوقود الاحفوري نحو الطاقة النظيفة بسبب تحديات المناخ والتوجه نحو السيارات الكهربائية التي تحتاج الى معادن نادرة لصناعة بطارياتها ،هذه المعادن موجودة على الاغلب في روسيا، سيعمد منتجو النفط والغاز الى استثمار الفرصة، فائض الانتاج السعودي والاماراتي سيمنح وليي العهد السعودي والاماراتي مرونة اكبر في علاقاتهما مع الولايات المتحدة والصين وروسيا والاوربيين، لن ينظر اليهما احد بعد اليوم بوصفهما حليف ثابت بلا قيد ولا شرط للولايات المتحدة مالم يستجيب الاخرون لما يطمحان اليه، ولن تكون سماعة الهاتف مفتوحة على الدوام بين واشنطن والرياض وابوظبي، الامر ذاته ستستفيد منه ايران وفنزويلا اللتين كانتا تجهزان سوق النفط بما يزيد على خمسة ملايين برميل من النفط، انقطع منذ سنين بسبب العقوبات الامريكية، سيكون الاتفاق النووي ومحادثات فيينا اقرب الى النتيجة والتحقق الايجابي كلما زادت روسيا من ضغطها العسكري وتراجعت اقتصاديا واخفقت في بيع نفطها.
سيصبح النفط الايراني ضروريا للسوق العالمية وستزداد القناعة باهمية منح طهران مساحة لدور اقليمي مقابل تقليص تقاربها مع الروس والصينيين وعودتها موردا كبيرا للنفط مع مراقبة مشددة لسلوكها السياسي.
الامر ذاته يمكن الاستفادة منه عراقيا، كان العراق محط الاهتمام العالي خشية من تداعيات اضطرابه وانقسامه وضياعه بين الدول الاقليمية والكبرى، حسابات المخاطر هو الذي كان يحرك القوى الدولية لمساعدة العراق خشية تحوله الى دولة فاشلة تطيح بالتوازنات الاقليمية وتطلق خلايا التطرف والارهاب والعنف والفوضى والنزوح والاقتتال الطائفي والقومي في المنطقة والعالم، الآن يمكن الدفع باتجاه اخر وهو الاستفادة من موقع العراق الجيو-ستراتيجي وإمكاناته لتحويله من بؤرة مخاطر الى محطة تساهم في الجهد الدولي لضمان الاستقرار والسلام والامن.
بامكان العراق ان يوصل صادراته من النفط الى قرابة الاربعة ملايين برميل في غضون عام واحد، الامر يحتاج الى استقرار امني واستثمارات وثقة ببيئة الاعمال العراقية، بامكان الدول الكبرى ان تساعد بغداد واربيل للوصول الى حلول لمشكلة عدم انصياع الاقليم للدستور الاتحادي فيما يخص استثمار وتصدير النفط والغاز، بامكان العراق ان يجعل الاخرين ذوو مصلحة في تأمين الدعم العسكري والامني والسياسي لفتح السوق العراقية امام استثمارات جديدة في حقول النفط والغاز غير المطورة في غرب العراق وشماله الغربي، ما يستدعي تحويل التوتر والاضطراب الى علاقات متينة داخليا واقليميا ودوليا.
امام العراق فرصة لبناء سلطة فعالة تستفيد من المتغيرات العالمية لتدعيم مركزه السياسي والامني والاقتصادي، العراق يعيش انسدادا منذ شهور، والحال الراهن يستدعي نمطا من التفكير المرن، يدفع نحو تحسين أوضاع البيئة السياسية العراقية ومنع احتدامها، قادة الكتل السياسية مطالبون بالتجاوب مع الديناميكية الجديدة التي صنعها التفكير الروسي.
الدروس المستفادة من الحرب الاوكرانية تؤكد ان روسيا ستضعف اقتصاديا وتكنولوجيا، وستعود كما كان الاتحاد السوفييتي السابق، قوة عسكرية تضغط باقدام ثقيلة على الخرائط الجغرافية القريبة، لكن الثقل الروسي سيتراجع بفعل العقوبات الاقتصادية القوية، وسيشهد العالم حربا باردة جديدة، وحروب نيابة تعوض فيها روسيا خسارتها اوربيا واستراتيجيا، قد يكون الشرق الاوسط احد مساحاتها الساخنة ،ستسعى روسيا الى فرض ثقلها لاستحصال تنازلات امريكية وغربية ليس في شرق اوروبا فحسب بل في وسطها وفي الشرق الاوسط، فها هي روسيا تربط بين حرب اوكرانيا وبين التوصل الى اتفاق بين ايران والدول الغربية في فيينا.
الامر الذي فاجأ الايرانيين والامريكيين ودفع الى ردود فعل متحفظة ومستغربة، لكن روسيا تعرف كيف تحبط المخططات التي لاتلائم مصالحها بشكل تام، حتى مع تقبل بعض الخسائر.
العالم في تغير والعراقيون مدعوون لقراءة هذه المتغيرات بما يفيدون منه لترميم بيتهم المحاط بالتهديدات والتحديات.
اضف تعليق