أيّام كُنّا نُناضل ضِدّ الاستبداد والديكتاتورية زمن المعارضة، كان أحد كبار الزعماء والقادة يراقب كتاباتي عن كثب، وكلّما لمَسَ فيها غمزاً ولمزاً، من نوعٍ ما، في قناتِه او قناةِ أحدٍ من زعماء حركة المعارضة كان يُبادرُ فوراً لحملِ سمّاعة الهاتف، من دون ان ينتبه للوقت، حتى اذا كان في ساعةٍ متأخّرة من الليل، مُعاتباً باستياءٍ مصحوباً بنبرة غضب، قائلا لي؛
[مو وكتها] اي ليسَ وقتها الان.
هذه الجملة ظلّ يُكرّرها عليّ (٢٣) عاما، حتى قلتُ له مرّة؛
مولانا؛ تاج راسنا، اذا صار وقتها خبّرني!!!.
طبعاً، هو لحدّ الان لم يُخبرني انه صار وقتها، ولن!!.
ومنذ سقوط الصنم في التاسع من نيسان عام ٢٠٠٣ ولحد الان، كلّما حاول المواطن ان يعبّر عن قناعاته وآرائه، قيل له؛ ليس وقتها! لماذا يا مولانا؟ لأنّ البلاد تمرّ بمنعطفٍ خطير وظروف صعبة! نخشى ان يستغلّ المتربّصون بالعراق المواطن المسكين والعادي والساذج والبسيط والمغفّل والجاهل وووووو، ممن يريدون افشال العملية السياسية برمّتها ويعيدوا عقارب الزمن الى الوراء، وبالتالي فَسنخسر كلّ المنجز التاريخي الذي تحقق لحدّ الان!.
ولذلك كانوا يحشّدون كلّ شيء من اجل افشال ايّة محاولة وطنيّة للتظاهر مثلاً او للاعتصام تعبيراً عن الرأي.
حتى الفتوى الدينيّة وظّفوها لإنقاذ رؤوسهم من المقصلة، خاصة في الدورة الثانية من سلطة رئيس مجلس الوزراء السابق، فلقد كنّا نسمع بأسماء (رجال دين) يحرّمون بفتاواهم التظاهر والتعبير عن الرأي، فقط عندما تلامس النار ذيول القائد الضرورة، ولم نسمع لهم رأياً ابداً في ايّ شيء آخر، ما يدلّل على وجود جهد (شرعي) كبير تبذله أطراف معينة لإنجاز هدفٍ محدد فقط لا غير!.
ولو انهم كانوا قد تَرَكُوا الشارع يعبّر عن رأيه، ويسمعوا منه، ثمّ يبذلون ما بوسعهم لتحقيق مطاليبه، لما وصلنا الى الحال البائس الذي نحن عليه الان! ولكان ذلك افضل للمسؤول وللبلاد وللعباد! ولما نزل السلف عن حماره بتلك الطريقة البائسة والمخجلة، وهوَ مَنْ هو!!!.
وخيراً يفعل السيد رئيس مجلس الوزراء الدكتور حيدر العبادي عندما يتعامل بإيجابية مع تظاهرات الشعب الحالية، فان ذلك يخدم حكومته قبل ان يخدم الشعب، فالتظاهر تعبير عن رأي مكبوت يجب ان يسمعه المسؤول في اقرب فرصة وقبل فوات الاوان.
لا ينبغي لنا ان نتغنّى فقط بالنص الدستوري الذي يكفل حقّ التظاهر للمواطن، للتدليل على ديمقراطيتنا، وعندما يريد احدهم ان يتمتّع بهذا الحقّ الدستوري، تهجم عليه الالسن الطويلة طعناً في النّوايا وتشكيكاً في الخلفيّات واتهاماً للمنطلقات والاهداف!.
صحيح ان مخاطر جمّة تحدق بالبلاد، ولكن؛
لا ادري لماذا يفرض الواجب الوطني والحرص الشديد، على المواطن فقط ان ينتبه لهذا الظرف الخطير الذي يفرض عليه السكوت والتحمّل والصّبر؟!.
لماذا لا يفرض الواجب الوطني على المسؤول ذلك؟ فيصمت عن عنتريّاته ويسكت عن واحدٍ بالمليون فقط من حقوقه؟ لماذا لا يفرض عليه العمل والجد والاجتهاد لينجح ويُنجز الواجب الذي عليه فيُبعد المخاطر عن البلاد؟ وُيحسّن اداء الدولة ازاء حق المواطن في الحياة الكريمة، عندها فلا المواطن يفكّر بالتعبير عن رايه بالتظاهر مثلاً ولا فقاعة الارهاب تتمدّد لتستولي على نصف العراق!.
لو كان السلف قد وفى بوعوده في الخدمات والكهرباء ومحاسبة الفاسدين، لما استمر الفشل للآن! ولو كان قد صدق في فترة المئة يوم التي خدع بها الشارع وخدّر بها الناس، لما استمر التقهقر!.
انها نتائج الكذب المتراكم! ولذلك قالت الحكمة [النّجاة في الصدق] فعندما كذِب سقط.
أعود فأتساءل؛
تُرى، من الذي ينبغي ان يحدد وقتها للمواطن؟ المسؤول مثلا؟ زعماء الاحزاب؟ زعماء الكتل؟ من؟.
لو كان الامرُ بيد هؤلاء فعمرهم لن يحدّدوا وقتها، فهم يتمنَّون لو ينام الشعب نومةَ اهل الكهف، ليظلّوا هم في السُّلطة يتمتّعون بكلّ شيء بعيداً عن أعينِ الرّقيب والحسيب، مردّدين له؛
نامي جياعَ الشَّعْبِ نامي حَرَسَتْكِ آلِهة ُالطَّعامِ
نامي فإنْ لم تشبَعِي مِنْ يَقْظةٍ فمِنَ المنامِ
نامي على زُبَدِ الوعود يُدَافُ في عَسَل ِالكلامِ
نامي تَزُرْكِ عرائسُ الأحلامِ في جُنْحِ الظلامِ
تَتَنَوَّري قُرْصَ الرغيفِ كَدَوْرةِ البدرِ التمامِ
وَتَرَيْ زرائِبَكِ الفِساحَ مُبَلَّطَاتٍ بالرُّخَامِ
انّ الذين يرفضون تعبير المواطن عن رايه، بالتظاهر تحديداً، حجتهم واحدة من ثلاث؛
اولاً؛ انها مسيّسة، ولذلك لا ينبغي تشجيعها؟!
وهل في العراق شيء غير مسيّس؟ اوليس الفساد مسيّس؟ والمناصب والتعيينات مسيّسة؟ والارهاب مسيّس؟ والدين مسيّس؟ والمذهب مسيّس؟ واللصوصيّة مسيّسة؟ والماء والكهرباء والتعليم والبيئة مسيّسة؟ والجو العام مسيّس؟ والاعلام مسيّس؟ والعشائريات مسيّسة؟ ومجالس الاسناد مسيّسة؟ والصحوات مسيّسة؟ والفن مسيّس؟ والتاريخ مسيّس؟ والرّايات مسيّسة؟ والمواكب الحسينيّة والتكيات مسيّسة؟ [موكب مختار العصر في الاربعين نموذجاً] والنارجيلا مسيّسة؟!.
حتى الميليشيات بكل عناوينها مسيّسة؟ واخيراً، حتى الحشد الشعبي سيّسهُ البعض، ولذلك يحاول اخذهُ بعيداً وزجّه بصراعاته السياسية لتدميره وتدمير السياسة وتدمير البلاد!.
ما هو الشيء غير المسيّس في العراق؟ دلّونا؟ اذكروا اسمه؟.
لماذا يحقّ لهم ان يسيّسوا كلّ شيء في البلاد، حتى الهواء والفشل، ولا يحقّ للمواطن ان يسيّس رايهُ اذا تظاهر؟!.
ثانياً؛ تارة يقولون ان (مُختار العصر) وراء كل هذه التظاهرات؟ واُخرى يقولون ان المجلس الاعلى والتيار وراءها! وثالثة يقولون ان اليمين واليسار والشمال والجنوب والامام والخلف والفوق والتحت وراءها! واذا انتهت عندهم قائمة الاسماء فسيقولون انّ الملائكة وراءها او ابليس!.
اقول؛
الف؛ وانتم من وراءكم؟!.
قد يقف هذا الطرف او ذلك خلف واحدة او اثنين من هذه التظاهرات ولكن ليس وراءها كلها!.
ولتوضيح الفكرة أضربُ مثلا فأقول؛
قد يقف الاوّل خلفها في البصرة ولكن من غير المعقول ان نتصور انه يقف خلفها في النجف وكربلاء، خاصة كربلاء التي تُعتبر بالنّسبة لَهُ احدى اهم معاقله التاريخية، وهي بالمناسبة المحافظة الوحيدة التي لم يتُم تداول السلطة فيها على مدى الدورات الانتخابية الثلاث!.
كذلك، يمكن ان يقف الثاني والثالث خلف تظاهرات كربلاء والنجف ولكن من غير المعقول التّفكير في انهما يقفان خلف تظاهرات البصرة والمحافظ منهما!.
وهكذا.
تعالوا نعترف بالفشل لنُقِرَّ بأنّ المواطن فحسب هو الذي يقف خلف ما يجري اليوم في البلاد، بعد ان طفِح الكيل ولم يعد يقدر ان يتحمّل اكثر، فيما يرى زمرة من المنتفعين، ساسة وأبواق وحواشي فاسدة، تتمتّع بكل ّالامتيازات [الماء والخضراء والوجه الحَسَن!] وليس للمواطن سوى [الشُّحُّ والصفراء والوجه الأَسَن!.
هذه تظاهرات المواطنين، قد يسعى البعض لتوظيفها واستغلالها، الا ان ذلك لا يعني ان امثاله وراءها! كما انّ ذلك لا يطعن بمصداقيّتها وشرعيّتها ابداً.
ثالثاً؛ يقولون بأنّ الظّرف خطير لا يتحمّل مثل هذا!.
نعم، فالظّرفُ خطيرٌ لا يتحمّل وجودكم، فعليكم ان ترحلوا، او انتظروا الطوفان!.
اضف تعليق