q
وفي حالة ريان تماهى الكثيرون مع حالة العجز والفقر التي يعانون منها فعزوا ما حصل الى فقر العائلة التي تمتلك بئراً قديماً متهالكاً ولو كانوا يمتلكون مصدر مياه جيد لما حصل ما حصل. في حين ان منطق تفسير البعض لما يحصل لأطفال آخرين من قتل في بلدان أخرى...

“انه النفاق والتحيز والاعلام الموجه… لماذا لم تتعاطفوا بنفس الطريقة مع الاف الاطفال الذين يقتلون بدم بارد في اليمن وسوريا وفلسطين والعراق؟” هكذا رد عليّ أحدهم عندما غردت متعاطفاً ككثير من الناس مع الطفل المغربي ريان الذي استمر يصارع الموت في (غيابت الجب) عدة ايام حبس فيها جميع العالم انفاسه قبل ان يلفظ رحمه الله أنفاسه الأخيرة.

ولأني من شعبٍ يؤمن بالمؤامرة حتى عندما يصيبه الأرق، فقد وجدت هذا الرد مقنعاً ومفحماً مما اضطرني أن أعود لكتبي في علم النفس الاجتماعي لأجد تفسيراً لهذا التعاطف منقطع النظير مع ريان وهذا التجاهل منقطع النظير لمحنة أطفالنا الذين يقتلهم الاعداء دون ان نجد ذات التعاطف الاعلامي والشعبي والنقل المباشر للمجازر التي ترتكب بحقهم!

هل فعلاً هناك مؤامرة على عقولنا؟ يفرق علماء النفس بين مفهومين يلعبان دورا كبيراً في اشباع حاجة التواصل الاجتماعي عند الانسان هما التعاطفSympathy والتراحم أو التآزر. (1) Empathy فالتعاطف يتضمن الاكتفاء بالتعاطف والتضامن عن بعد، أما الثاني فيتضمن تعاطفاً أكثر ايجابية لا يشمل فقط التأثر الوجداني المؤدي الى شعور كبير بالقلق على مصير الضحية قد يؤدي الى ارهاق نفسي لنا، بل قد نتجاوز ذلك الى التقمص الفكري ومحاولة التماهي مع ما يفكر به الضحية أو حتى الشعور أحياناً بارهاق أو آلام جسدية (كالغثيان أو آلام أخرى) نتيجة هذا التفاعل العاطفي الانفعالي.

وقد سمعت من أكثر من شخص عن مدى تأثرهم النفسي والفكري وحتى الجسدي بعدما تم اخراج ريان من البئر. أن هذا الشعور بالتراحم والتضامن مفيد جداً للإنسان ليس فقط لأننا نحتاج شعورياً ان نكون على صلة مع الآخرين، بل لأنه يساعد أيضاً على الاحساس بشيئين مريحين للنفس، الاول هو الشعور بان الآخرين سيتضامنون معنا حين نقع بنفس المحنة، والثاني هو التنظيم أو التكييف الذاتي العاطفي emotional regulation والذي نتعلم منه كيفية مواجهة المواقف المشابهة مستقبلاً دون ان ننهار.

الناس عادةً لا يظهرون التراحم أو التواد بنفس الطريقة بسبب اختلافاتهم الشخصية أولا والأهم (فيما يعنينا بقصة ريان) بسبب اختلاف الظروف للموقف الذي يتطلب التراحم. فنحن نتآزر أو نتعاطف مع الأشخاص والمواقف بطرق مختلفة.

ان طريقة أدراكنا للآخر تؤثر في مدى تعاطفنا أو حكمنا عليه. نحن عموماٍ نتعاطف مع الاطفال والضعفاء (وأحياناً الاقوياء) أكثر مما نتعاطف مع الناس الطبيعيين. فنقول عمن نعتقد أنهم عاجزين أو ضعفاء (خطية) في حين نقول عن الآخرين (يستاهلون).

وفي حالة ريان كما مع بقية الاطفال عادةً ما نقول (خطية)، وكان يمكن ان نقول “من أيده” أذا كنا نعرف أو نحكم على ريان بأنه (وكيح أو مشاغب)! من جهة اخرى فأن أدراكنا ومن ثم تعاطفنا يعتمد على طريقة التسبيب أو التعليل (او ما يسمى في علم النفس العزو) لسلوك الضحية. أننا نحاول دوما ان نجعل الاشياء تبدو لنا منطقية لذلك نفتش عن ربط النتيجة بالسبب.

وفي حالة ريان تماهى الكثيرون مع حالة العجز والفقر التي يعانون منها فعزوا ما حصل الى فقر العائلة التي تمتلك بئراً قديماً متهالكاً ولو كانوا يمتلكون مصدر مياه جيد لما حصل ما حصل. في حين ان منطق تفسير البعض لما يحصل لأطفال آخرين من قتل في بلدان أخرى قد يعزو ما حصل لهم الى سياسات حكامهم او بعض المجاميع المسلحة التي تتحكم بحياتهم… أو سواها من المسببات التي تضعف التراحم العاطفي معهم لدى البعض.

بئر مغطى

قليلون هم من فكروا مثلا بأن السبب قد يكون الأب المهمل الذي ترك البئر مغطى بغطاء متهالك لم يحتمل وزن الطفل! أن عدم وجود جلاد نلومه يقلل كثيرا من التعاطف، وفي حالة ريان غاب الجلاد الذي تسبب بالحادث عن مسرح الجريمة.

أن التجربة السابقة والتوقعات هي من العوامل التي تزيد أيضاً من التفاعل والتعاطف مع الآخر. ومأساة ريان تذكرنا مثلا بما حصل ليوسف عليه السلام وظلم أخوته له. كما انها تتماهى مع مأساة ملايين الاطفال الفقراء والذين لا يمتلكون أجهزة أو ألعاب ألكترونية، وآبائهم منهكين من جراء العمل اليومي المضني لتأمين المعيشة لهم. أنها تذكرنا بحالنا والملايين الذين لا يمتلكون حدائق عامة ونوادي وأماكن للعب أطفالهم.

أنه الفقر والاهمال والعجز الحكومي عن انقاذه والظلم الاجتماعي الطبقي الذي سبب الموت لريان كما يمكنه ان يسبب نفس المصير لأبنائنا، لذا كان التماهي والتعاطف مع ريان أكثر من أي تعاطف ألفناه. طبعاً انا هنا حين أفسر فلا أتخذ أي مواقف حُكمية أخلاقية، وانما أحاول معرفة سبب هذا التعاطف الكبير مع الطفل (ريان) وهل كان بسبب مؤامرة اعلامية غربية صهيونية امبريالية ماسونية كافرة، أم هناك أسباب منطقية أخرى له؟ هذا لا يعني أطلاقاً قبولي بالمجازر الارهابية التي تقع على كل اطفال العالم في كل مكان وفي عالمنا العربي خصوصاً، بل اني أرفض منطق التعامل بمكيالين أخلاقيَين، لكني أحاول ان أفهم ما حصل خارج نظرية المؤامرة التي باتت تتحكم بعقولنا وتطاردنا حتى في غرف نومنا! لم أهتدي للأسف لمصطلح يقابل معنى لهذا المصطلح النفسي الانكليزي لذا اجتهدت في اختيار مصطلح التراحم أو التآزر كاقرب ما يكونان للمفهوم، وقد يسعفني أحدهم بمصطلح أفضل.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق