q
الأمن العميق في مجتمعاتنا العربية يتطلَّب العمل الجاد في بناء رؤية وطنية متكاملة لإدارة التنوُّع بعيدًا عن نزعات الاختزال.. ومارست الدول العربية في سبيل تحقيق أهدافها كل ألوان الظلم والحيف بحق أبناء شعبها. ولكن ولاعتبارات بنيوية متعلّقة من لحظة تشكيل الدولة الحديثة في العالم العربي، كانت النتائج كارثية...

في إدارة التنوُّع الثقافي

ربما يتَّضح في مقبل الأيام، أن جذور ما تعيشه العديد من بلدان العالم العربي من تطرُّف وفوضى وأشكال عديدة من الاحتراب الأهلي بيافطات دينية ومذهبية وقومية وعرقية، تعود إلى لحظة الاستقلال عن الاستعمار والهيمنة الأجنبية.

لأن الكثير من الدول العربية بعد لحظة الاستقلال، تشكَّلت بنزعة عصبوية ضيقة، احتضنت بعض التعبيرات وأعطتها ما تستحق وما لا تستحق، ومارست النبذ والتهميش والاستئصال بمكونات أخرى، ومنعت عنها حقوقها وما تستحقه انطلاقًا من إنسانيتها وآدميتها ولكونها شريكًا أصيلًا في الوطن والمواطنة.

واستمرت الكثير من دول العالم العربي تعيش وفق هذه المفارقة، بحيث غالبية المواطنين، لا يعرفون من الدولة إلَّا أجهزتها الأمنية والإجرائية، وفئة قليلة تحكم باسم حزب تقدّمي أو مشروع سياسي يستهدف -كما تدعي أدبياته- إخراج أبناء المجتمع والوطن من الظلام والظلامية والتخلف المقيم في كل أروقة المجتمع.

إن الأمن العميق في مجتمعاتنا العربية اليوم، يتطلَّب العمل الجاد في بناء رؤية وطنية متكاملة لإدارة التنوُّع بعيدًا عن نزعات الاختزال وعبء التاريخ والراهن.

ومارست الدول العربية في سبيل تحقيق أهدافها كل ألوان الظلم والحيف بحق أبناء شعبها. ولكن ولاعتبارات بنيوية متعلّقة من لحظة تشكيل الدولة الحديثة في العالم العربي، كانت النتائج كارثية وعلى النقيض تمامًا من الشعارات واليافطات المرفوعة على صعيد إدارة التنوّع.

فشعار الوحدة المرفوع تحوَّل على المستوى العملي إلى استمرار مشروع التشظِّي الاجتماعي العمودي والأفقي، وبقي الجميع محبوسين في دوائر انتمائهم الضيقة التي أقل ما يقال عنها انتماءات ما دون المواطنة وبناء الدولة الحديثة. باسم الاشتراكية في بناء الاقتصاد تمَّ التدمير الممنهج والمنظم لكل الصناعات الوطنية التقليدية والحرفية، وأصبحت أسواق هذه البلدان مفتوحة على مصراعيها لكل المنتجات الأجنبية. فأضحت المعادلة التالية: صعوبات جمَّة تحول دون استمرار أصحاب الصنع اليدوية والحرفية من العمل لأسباب مُتعلِّقة بالجدوى وسياسات الحماية، وتسهيلات مالية وجمركية لاستيراد كل شيء، فكانت النتيجة انهيار متسارع للصناعات الوطنية وغزو متعاظم للبضائع والصناعات الأجنبية. وعلى المستوى الاجتماعي والسياسي حيث شعار الحرية، تفاقمت من جراء هذه السياسات القسرية التناقضات الأفقية والعمودية، وأضحت خلافات الناس الجوهرية - التقليدية تدار بيافطات حديثة. فلم تتمكَّن هذه الدولة من بناء مشروع وطني، ينقل أبناء الوطن على مستوى علائقهم الداخلية وطريقة نظرتهم بعضهم إلى بعض من الحالة التقليدية الموغلة في التباينات والصراعات ذات البعد التاريخي، إلى حالة حديثة قائمة على العقد الاجتماعي ومنظومة دستورية - قانونية تحدّد الواجبات والحقوق انطلاقًا من قيمة المواطنة بعيدًا عن دوائر الانتماء التقليدية.

وهكذا نستطيع القول: إن ما يجري اليوم في العديد من دول العالم العربي، هو نتاج طبيعي إلى بنية الدولة العربية الحديثة وطبيعة الخيارات السياسية السائدة منذ لحظة الاستقلال الوطني إلى الآن. فكانت النتيجة وجود تحت سقف وطني واحد، مجتمعات متخاصمة بعضها مع بعض، وكل طرف يتحيَّن الفرصة للانقضاض على الطرف الآخر، مع غياب شبه تام لقانون قادر على ضبط هذه النزعات. وحينما خفَّ منسوب الخوف لدى الناس، أو سقطت هيبة الدولة في نفوسهم، كان حاصل ذلك الفوضى والانفلاش الداخلي على أكثر من صعيد.

فأضحى المجتمع الواحد مجتمعات، والانتماء الوطني انتماءات تاريخية وتقليدية متصارعة ومتحاربة، والذاكرة التاريخية الواحدة، مجموعة ذاكرات تاريخية كلها ملغومة وتحمل في طياتها قنابل موقوتة بحق الآخر الذي كان قبل أيام شريكًا وطنيًّا.

وتعلّمنا هذه التجربة المريرة، والتي نشهد نتائجها الكارثية في العديد من الدول العربية أنه حينما يغيب الوطن الواحد الجامع والحاضن للجميع، فإن النتيجة المباشرة لذلك هو دخول الجميع في حروب باردة وساخنة ضد الجميع تحت يافطات ومبرّرات لا تنتمي إلى العصر ومكاسب الحضارة الحديثة. وحينما تنهار أسس العيش المشترك ولو في حدودها الدنيا، فإن النتيجة الفعلية لذلك الاستمرار في الانهيار الاجتماعي والأمني بشكل متسارع وبعيدًا عن القدرة على الضبط والإدارة.

وحينما لا تتمكّن الدولة من رعاية شعبها وحمايته، فإن النتيجة المباشرة لذلك أن أبناء الوطن سيكونون فضاء للثأر والانتقام والخصومات المفتوحة على كل الاحتمالات.

وكل هذا يوصلنا إلى النتيجة التالية: إن غالبية الدول العربية الحديثة وبالذات التي حُكمت بيافطات ثورية وتقدمية، فشلت في إدارة تنوّعها الديني والمذهبي والإثني بشكل صحيح، وإن ما نشهده من حروب وكانتونات مغلقة هو نتاج هذا الفشل والإخفاق.

وإن المطلوب الاستفادة من هذه التجربة، لبناء مقاربة جديدة تقطع مع تلك الممارسات التي أفضت إلى تلك النتائج الخاطئة والخطيرة. وفي سياق تظهير أهم الدروس والعبر لخلق رؤية جديدة لإدارة التنوّع نذكر النقاط التالية:

1- إن إدارة التنوّع الثقافي في كل الأوطان والمجتمعات، هو أسلم الخيارات وأسهلها، والذي يجنب الأوطان مآزق وأزمات كبرى. فمن يبحث عن استقرار سياسي واجتماعي عميق في ظل مجتمعات متعدّدة ومتنوّعة، لا سبيل لديه إلَّا تطوير نظام الإدارة والاستيعاب لحقائق التنوّع الموجودة في المجتمع.

2- تطوير درجة الوعي الأخلاقي والالتزام بالمناقبيات الأخلاقية في المجتمع؛ لأنه لا يمكن إدارة التنوّع إدارة حكيمة في ظل أخلاق متدهورة أو بعيدة عن مسارها الصحيح. لذلك حيثما وجدت أخلاق عملية فاضلة، سيحظى الجميع وهم مختلفون باحترام متبادل. أما إذا ساءت الأخلاق وتدهور السلوك الأخلاقي العملي، فإن جميع الاختلافات ستتحوّل إلى مصدر إلى التوتر الدائم في المجتمع.

3- ضرورة أن تتعالى المؤسسات الوطنية عن الانقسامات الاجتماعية، بحيث لا تكون طرفًا سلبيًّا تغذي الاختلافات وتحمي بعض أطرافه. والمقصود بالتعالي هنا هو أن تؤدّي هذه المؤسسات وظيفتها الوطنية للجميع على قاعدة المواطنة الجامعة، وأَلَّا تكون انتماءات المواطنين لها مدخليته في إعطائه أكثر مما يستحق أو منعه مما يستحق.

فلا يمكن إدارة التنوّع الثقافي والاجتماعي، في ظل مؤسسات وطنية خاضعة لمقتضيات ومتواليات الانقسام الاجتماعي؛ لأن هذه المؤسسات ولكونها طرفًا في هذه الانقسامات فإنها ستغذي التباينات بين المواطنين من موقع القدرة والسلطة. أما إذا مارست هذه المؤسسات تعاليها على انقسامات مجتمعها، فإنها ستحظى باحترام وتقدير الجميع، وستعبّر بصدق عن وعي وطني عميق وجامع يحول دون تفاقم الاختلافات والتباينات بين أبناء المجتمع والوطن الواحد.

4- ضرورة العمل على بناء مشروع وطني ثقافي واجتماعي متكامل، بحيث تكون مبادئ وقيم وأولويات هذا المشروع هي التي تغذي جميع أبناء الوطن، بعيدًا عن التصنيفات والانتماءات الفرعية.

ولعلّنا لو تأمّلنا في التجارب التي أخفقت في إدارة تنوّعها من حولنا، سنكتشف أن أحد الأسباب المهمة لذلك هو غياب مشروع وطني جامع، يعمل على دمج كل التعبيرات في إطار رؤية تمثّله وتعبّر عن ذاته الفردية والجمعية.

أما إذا غابت هذه الرؤية فإن الشيء الطبيعي لذلك هو تمسّك كل جماعة فرعية بانتمائها الخاص، مما يُفضي إلى الإخفاق في إدارة التنوّع الثقافي على نحو إيجابي وحضاري. وجماع القول: إن الأمن العميق في مجتمعاتنا العربية اليوم يتطلّب العمل الجاد في بناء رؤية وطنية متكاملة لإدارة التنوّع بعيدًا عن نزعات الاختزال وعبء التاريخ والراهن.

حقوق الإنسان والتنوّع الثقافي

على المستوى الإنساني والاجتماعي، ثمّة حقائق ثابتة وشاخصة لا يمكن النظر إلى الواقع الإنساني بدونها.. ولعل من أبرزها هي حقيقة الاختلاف والتنوّع الثقافي الموجودة في الحياة الإنسانية.

ونظرة واحدة إلى الأطلس الأنثروبولوجي، نكتشف فيه أن التنوّع الثقافي والديني والقومي والإثني من الحقائق التي لا يمكن تجاوزها أو التغافل عنها.. وعلى ضوء هذه الحقيقة فإن جميع المجتمعات الإنسانية تعيش حالة التنوّع والتعدّد على مختلف الصعد والمستويات.

فالمجتمعات المتحدة دينيًّا، بمعنى أن جميع أبناء المجتمع ينتمون إلى دين سماوي واحد، فإن هذا المجتمع المتحد دينيًّا، متنوّع مذهبيًّا وقوميًّا وإثنيًّا. وإذا كان المجتمع متحدًا قوميًّا فهو متنوّع دينيًّا أو مذهبيًّا أو إثنيًّا. وعليه فإن التنوّع في حياة المجتمعات الإنسانية من الحقائق الثابتة، التي لا يمكن تجاوزها أو التغافل عنها.

وكل الوحدات الاجتماعية والوطنية لا تُبنى على أنقاض دحر حقائق التنوّع الموجودة في الحياة الاجتماعية، وإنما تُبنى باحترام حقائق التنوّع. فالوحدة القائمة على احترام حقائق التنوعات هي الوحدة القادرة على استيعاب كل الخصوصيات وتجاوز نزعات الإلغاء لبعض التنوعات.

فحقائق التنوّع في كل الدوائر ليست حقيقة مناقضة لوحدة المجتمع أو الوطن، وإنما كل الأوطان والمجتمعات الإنسانية، لم تقبض على وحدتها إلَّا حينما احترمت حقائق تنوّعها.

وعليه، فإن طريق وحدة الأوطان والمجتمعات المتنوّعة، هو احترام كل حقائق التنوّع دون الانحباس فيها، وعلى قاعدة هذا الاحترام يتم بناء حقائق الوحدة الوطنية والاجتماعية.

وفي الإطار العربي -وبفعل عوامل عديدة ثقافية واجتماعية وسياسية- نجد أن ثمّة سلوكًا غير قويم في طريقة التعامل مع الاختلافات وحقائق التنوّع وبين صيانة حقوق المختلف والمتنوّع وفي أغلب الحيان يكون الاختلاف في أي دائرة من دوائر التنوّع مدعاة إلى عدم الاهتمام والعناية بالحقوق المادية والمعنوية.. بحيث يكون الاختلاف الديني أو المذهبي أو القومي أو الإثني مدعاة إلى تجاوز حقوق هذا المختلف، سواء كانت هذه الحقوق مادية أو معنوية؛ لذلك فإن حقائق التنوّع في المجتمعات العربية ليست من علامات القوة والمنعة، وإنما هي من علامات وجود مشاكل وأزمات تتعلّق بطبيعة التعامل مع المجموعات البشرية التي تنتمي دينيًّا أو مذهبيًّا أو قوميًّا أو إثنيًّا غير ما تنتمي إليه أكثرية أهل المجتمع أو الوطن.

ودون الدخول في مضاربات فكرية أو أيديولوجية فإننا نرى أن المجتمعات العربية معنية ببناء مقاربة جديدة في طريقة تعاملها مع حقائق التنوّع الموجودة فيها. وهذه المقاربة لا تضحّي بعزتها ووحدتها، وفي الوقت نفسه لا تضحّي بتنوّعها الذي هو من الحقائق الثابتة في مجتمعها ووطنها. ونحن نرى أن المجتمعات المتنوّعة التي بنت وحدتها الوطنية، لم تتمكن من بناء وحدتها الوطنية بالتضحية بحقائق تنوّعها، وإنما بنت تلك الوحدة على قاعدة احترام كل حقائق التنوّع دون أن ينحبس أهل هذه التنوّعات بعيدًا عن السياق الوطني الواحد والجامع لكل التنوعات. ودائمًا الدول الوطنية قادرة على بناء تجربتها الوطنية وعلى أساس هذه القناعة الراسخة يتم صيانة حقوق كل المجموعات البشرية في السياق الوطني الواحد والجامع لكل المواطنين.

بحيث لا يكون الاختلاف في أي دائرة من دوائر الاختلاف مدعاة إلى عدم العناية بحقوقه المادية أو المعنوية، وإن الوحدة الوطنية أو الاجتماعية، لا تُبنى على أنقاض حقائق التنوّع، وإنما تُبنى باحترام هذه الحقائق، وكل المجتمعات الراسخة في وحدتها الوطنية، لم تكن الحالة من الرسوخ إلَّا باحترام كل حقائق التنوّع الموجودة في مجتمعها ووطنها.

وعلى ضوء هذه الحقيقة نصل إلى قناعة فكرية أخرى، نابعة من كل التجارب الوحدوية على مستوى الأوطان والمجتمعات، وهي أن الذي يقف ضد حقائق التنوّع، هو ذاته الذي يقف ضد وحدة الأوطان والمجتمعات؛ لأن الذي يقف ضد حقائق التنوّع، يريد الوطن بمقاسه الاجتماعي والأيديولوجي، والأوطان لا تُبنى بمقاس واحد من أبناء الوطن، وإنما تُبنى بمقاس الجميع. وعليه، فإن الذي يحارب حقائق التنوّع لن تكون إضافة نوعية في مشروع الوحدة الوطنية؛ لذا نرى أن الأولوية بالنسبة لجميع أبناء الوطن الواحد، هي تعزيز الوحدة الوطنية وتصليبها أمام كل المخاطر والتحديات ولا يتم ذلك إلَّا بمقاربة فكرية واجتماعية وسياسية لظاهرة التنوّع الموجودة في المجتمع، فإن التعامل الحسن ينعكس إيجابًا على مستوى صلابة ومتانة الوحدة الوطنية والاجتماعية.

لذلك كله، تعالوا جميعًا نعزّز وحدتنا الوطنية عن طريق التعامل الحضاري مع حقائق التنوّع في مجتمعنا. والتعامل الحضاري ليس مقولة هلامية، وإنما تعني الاحترام وفسخ المجال القانوني للتعبير عن ذاتها، وبناء السياق الوطني بعيدًا عن التعصّب وبثّ الكراهية، حتى يشعر الجميع بالطمأنينة والاستقرار النفسي والاجتماعي.

في الوعي بحقوق الإنسان

تعدّدت النصوص والمواثيق الدولية والإقليمية، التي توضّح حقوق الإنسان، وتتالت الإعلانات من مختلف المواقع الأيديولوجية والثقافية والسياسية، التي تبرز رؤيتها وتصورها لشرعة حقوق الإنسان. ولكن وفي مقابل هذا التعدّد والتتالي ازدادت طرق انتهاك حقوق الإنسان، وتنوّعت صور تجاوز هذه الحقوق سواء من قبل الأفراد أو المؤسسات.

وأضحت مجتمعاتنا من جراء ذلك تعيش مفارقة مذهلة هذا الصعيد. نصوص راقية ورائعة وجميلة توضّح حقوق الإنسان، ووقائع وصور سياسية واجتماعية يندى لها الجبين، تنتهك فيها كل هذه المواثيق والإعلانات المنادية بصيانة حقوق الإنسان. ولجوؤنا إلى جمال النصوص وروعة المواثيق لا يغيّر من الواقع السيِّئ على هذا الصعيد.

لذلك فإن المؤسسة الكبرى التي تتوجَّه إلينا جميعًا هي كيف نردم الهوة والفجوة بين النص والواقع، بين المواثيق والوقائع، بين الأقوال والأفعال، بين المقولات الأيديولوجية والثقافية، والممارسات السياسية والإدارية.

وبإمكاننا أن نحدّد الخطوات التي تساهم في ردم الفجوة في النقاط التالية:

1- طالب بحقوقك: فلا يمكن أن تردم الفجوة، إلَّا بأن يتحرّك أبناء المجتمع للمطالبة بحقوقهم. فلو عمل كل إنسان على المطالبة الدائمة والملحّة بحقوقه، فإن قدرة المجتمع على ردم الفجوة، ستكون أقوى وأكثر فعالية؛ لذلك نجد أن المسافة تكون طويلة بين القول والفعل على مستوى حقوق الإنسان، في تلك المجتمعات التي لا تطالب بحقوقها، أو لا تسعى لتطوير آليات حفظ مكاسبها وحقوقها.

إننا نعتقد أن المجتمع الذي يطالب بحقوقه، ويلحّ عبر الوسائل المدنية والمشروعة للمطالبة بها، هو الذي يقبض على حقوقه، ويعيش في رحابها وبركاتها. أما المجتمع الصامت والخامل الذي لا يطالب بحقوقه، فهو سيعيش القهقرى، ولن يتمكّن من القبض على حقوقه.

فالحقوق بكل مستوياتها بحاجة إلى وعي دائم بها، ويقظة مستمرة للحفاظ عليها وتطويرها. من هنا أهمية نشر الوعي الحقوقي بين أفراد المجتمع بكل فئاتهم وشرائحهم، حتى تتوفّر لديهم إمكانية المطالبة بحقوقهم العامة، ويحافظوا على كل مكاسبهم على هذا الصعيد.

فالمجتمعات الحية والفاعلة هي القادرة على نيل حقوقها أو الحفاظ عليها. أما المجتمعات الميتة والراكدة فإنها لن تتمكّن من الحفاظ على حقوقها فضلًا عن المطالبة بها وتذليل العقبات أمام امتلاكها. فالمجتمعات التي نالت حقوقها العامة هي تلك المجتمعات التي طالبت بحقوقها وعملت من أجلها، ونشرت الوعي الحقوقي بين أفرادها للحفاظ عليها.

فالوعي بالحقوق هو الذي يقود إلى نصرة هذه الحقوق. وبالوعي والنصرة تتطور مفاهيم وحقائق حقوق الإنسان في المجتمعات الإنسانية. وينقل التاريخ أنه قبل البعثة النبوية الشريفة بعشرين عامًا دخل رجل من قبيلة زبيد مكة، وعرض بضاعته للبيع فاشتراها منه العاص بن وائل، وحبس عنه حقّه فاستعدى عليه الزبيدي بعض بطون قريش فأبوا أن يُعينوه، فأوفى على جبل أبي قبيس المشرف على الكعبة، فصاح بأعلى صوته:

يا آل فهر لمظلوم بضاعته

ببطن مكة نائي الدار والنفر

ومحرم أشعث لم يقضِ عمرته

يا للرجال وبين الحجر والحجر

إن الحرام لمن تمت كرامته

ولا حرام لثوب العاجز القذر

فأثارت هذه الأبيات حمية رجال قريش، فقام الزبير بن عبد المطلب، وعزم على نصرته، وأيَّده في ذلك آخرون، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان فتعاقدوا، وتعاهدوا على أَلَّا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم، ممن دخلها من سائر الناس، إلَّا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته. ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي وردوها إليه.

وسمَّت قريش هذا الحلف بحلف الفضول، وشارك النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه، وروي عنه قوله: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دُعيت به في الإسلام لأجبت».

فلو صمت الزبيدي لضاعت حقوقه. ولو تخلّف الواعون عن نصرته لتعمَّم الظلم والاضطهاد؛ لهذا فإن المطالبة الدائمة بالحقوق هي طريق نيلها والقبض عليها.

«ولا شك في أن مشاركة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الحلف، وقوله المأثور في مدحه، يُعبِّران عن تأييد الإسلام لكل سلوك قويم يمارسه البشر انطلاقًا من فطرتهم التي فطرهم الله عليها، وتبنيه لكل قيمة خيرة تكتشفها عقولهم، وتتمخّض عنها تجربتهم؛ لأن الإسلام في الواقع لم يأتِ إلَّا لتدعيم كرامة الإنسان التي أودعها الله فيه ولضمان حقوقه، ودعوته إلى ممارستها، وحمايتها من تجاوز الغاشمين وظلم المستكبرين الذين يريدون العلو على الناس والفساد في الأرض»[1].

والتجارب التاريخية لكل الأمم والشعوب تثبت لنا أن صيانة حقوق الإنسان، وبناء المجال العام وفق مقتضياته، لم يُبنَ أو تصل إليه المجتمعات المتقدّمة إلَّا بالتأصيل والوعي والمطالبة المستديمة، ومحاصرة كل بؤر التعدّي على الحقوق، وتحفيز الناس للدفاع عن حقوقهم وتجسيدها في المجالين الخاص والعام.

2- التربية الديمقراطية: فسيادة حقوق الإنسان في المجال العام ليس ادعاءً يُدَّعى، وإنما هي مرحلة تبلغها الأمم والمجتمعات بعملها وكفاحها وسعيها الحثيث في هذا السياق.

ولا ريب في أن التربية الديمقراطية، وإشاعة ثقافة الحرية والحقوق، من الروافد الأساسية لبلوغ مرحلة سيادة قيم حقوق الإنسان في المجال العام. من هنا تنبع أهمية أن تسود هذه التربية وآلياتها كل مؤسسات وأنشطة المجتمع، وذلك حتى يتشبّع أبناء المجتمع بهذه القيم، ويتدرّب الجميع على أسس الحوار والتعدّدية وصيانة حقوق الإنسان.

والتربية الديمقراطية بحاجة إلى جهود متراكمة، حتى تُفضي في المحصلة النهائية، إلى أن تصبح هذه القيمة جزءًا من النسيج الاجتماعي والثقافي. وذلك لأنه على حدِّ تعبير (عمانوئيل كانت): ثمة اكتشافان إنسانيان يحقّ لنا اعتبارهما أصعب الاكتشافات: فن حكم الناس، وفن تربيتهم.

فالطريق إلى التربية الديمقراطية ليس مُعبَّدًا أو سهلًا، وإنما هو مليء بالصعوبات والعقبات والمشاكل. وإصرار أبناء المجتمع على هذا الخيار، وسعيهم الحثيث لتجاوز كل الصعاب، هو السبيل لإنجاز هذا المفهوم في الفضاء الاجتماعي. وعليه فإن كل واحد فينا، يتحمّل مسؤولية مباشرة في هذا المشروع، بحيث يُثقِّف نفسه ثقافة ديمقراطية، ويتعامل في كل دوائر محيطه وفق مقتضيات ثقافة الحرية والحقوق، ويشيع أجواءهما في دوائر حركته المتعدّدة.

إدارة التنوّع الإنساني

ثمّة حقيقة إنسانية ثابتة وراسخة في الوجود الإنساني، وهي أنهم متنوّعون ومتعدّدون، ولا يمكن أن يكون الإنسان نسخة كاملة من الإنسان الآخر، فالباري عز وجل خلق الإنسان وأوجد فيه هذه الجِبِلَّة الإنسانية.

وأي سعي لتجاوز هذه الجبلة الإنسانية أو مخاصمتها، فإنه (أي السعي) لا ينتج إلَّا المزيد من الاستبداد وكل متوالياته الكارثية.

ولكن هذا التعدّد والتنوّع الإنساني في القناعات والميولات والأهواء والأولويات، ليس مدعاة للفوضى أو الانعزال والانكفاء عن الجماعات الإنسانية. فالناموس الرباني الذي أودع في كل إنسان قابلية الاختلاف وحقائق التنوّع على المستوى العقلي والنفسي، هو ذاته الذي دعانا جميعًا إلى بناء حياة إنسانية مشتركة قائمة على هذه الحقائق وصياغة أنظمة اجتماعية وأخلاقية لا تمارس العسف بحق مقتضيات الجبلة الإنسانية.

فنحن جميعًا كبشر مختلفون ومتنوّعون، ولكن هذا الاختلاف والتنوّع، لا يبرّر لنا أن نعيش وحدنا أو ننعزل عن محيطنا الاجتماعي أو نهرب إلى الكهوف رافضين المساهمة في بناء حياة إنسانية واجتماعية على أسس متينة ومنسجمة ونواميس الخالق عز وجل في الوجود الإنساني.

فالمطلوب في هذا السياق هو إدراك إننا كبشر متنوّعون، والله سبحانه وتعالى خلقنا على هذه الجبلة، ولكن في الوقت ذاته جاءت التوجيهات الربانية لتدعونا إلى التعارف والانفتاح والتواصل مع الإنسان الآخر، إذ يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[2].

فالآية القرآنية الكريمة تُرسي وتُؤصِّل لمبدأ الكرامة الإنسانية الذاتية، وإن الفضل بين البشر ليس وليد شكل الإنسان أو لونه أو قومه، وإنما هو وليد كسبه الذاتي الذي تُشير إليه الآية القرآنية بأن {أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، فالتقوى ليست إرثًا يحصل عليه الإنسان، كما أنها ليست صنوًا لقوم معيّن أو جماعة بشرية محدّدة، وإنما هي قيمة أخلاقية وسلوكية يحصل عليها أي إنسان بصرف النظر عن قومه وبيئته، هذا إذا هذَّب نفسه وسيطر على شهواته وأهوائه. فالبشر يتفاضلون بعضهم مع بعض من جرّاء كسبهم الذاتي وليس لشيء آخر.

فالتنوّع الإنساني حقيقة راسخة في الوجود الإنساني، وجميع البشر تجاه هذه الحقيقة سواء. بمعنى لا يوجد عرق أفضل من عرق آخر، ولا يوجد شعب أفضل ذاتيًّا مع شعب آخر، فالجميع متساوون، ووسيلة التفاضل الوحيدة بين البشر هي وسيلة كسبية ومرهونة بقدرة كل فرد أو مجتمع على بناء واقعه على أسس صلبة تمكّنه من التقدّم وحيازة الصفوف الأولى في السباق البشري.

وحتى لا يتحوّل التنوّع الإنساني إلى سبب للفوضى أو الصراع المدمّر بين المجتمعات هناك قيمتان مركزيتان تضبط حقيقة التنوّع وتديرها على أسس صحيحة، وهاتان القيمتان هما:

1- العدل: إن التنوّع الإنساني بكل مستوياته، يتحوّل إلى مصدر للجمال والثراء المعرفي والأخلاقي، حينما يدار وفق قيمة العدل. فالاختلافات الإنسانية لا تشرع لأي أحد للافتئات على أخيه الإنسان.

وإنما الاختلاف ينبغي أن يُدار ويضبط بقيمة العدالة ومقتضياتها الأخلاقية والسلوكية؛ لذلك يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ، وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[3].

وجاء في تفسير هذه الآية أن العدل شعار الإسلام في الحياة. وينطلق القرآن في التأكيد عليه في بناء شخصية الإنسان المسلم بمختلف الأساليب، من أجل إلغاء كل النوازع والأفكار والمشاعر المنحرفة من تكوينه الذاتي، لئلَّا تحول بينه وبين الانسجام مع حركة الخط المستقيم في الحياة.

فتعالوا جميعًا من مختلف مواقعنا الفكرية والاجتماعية أَلَّا يخرجنا تباين قناعاتنا واختلاف مواقفنا في أي أمر أو موضوع عن العدالة ومقتضياتها؛ لأننا جميعًا مأمورون بالالتزام بالعدالة، وأَلَّا تكون اختلافاتنا المبرّر الأخلاقي لعدم الالتزام بالأمر الرباني. فالله سبحانه وتعالى خلقنا مختلفين وأمرنا بالعدالة في القول والفعل.

وأعتقد أن الكثير من المشكلات القائمة بين المختلفين سواء كانوا أفرادًا أو جماعات هو من جرّاء عدم الالتزام بمقتضيات العدالة. فالاختلاف مهما كان حجمه لا يشرع للظلم ونحن جميعًا مطالبون بالالتزام بالعدالة.

2- التعارف: لكوننا على المستوى الإنساني نعيش التنوّع والتعدّد بكل أشكاله، فإن المطلوب دائمًا ليس خلق الحواجز بيننا، وإنما فتح آفاق التعارف وإطلاق مشروعات للتواصل لكسر حاجز الجهل المتبادل وتطوير مستوى الفهم والتفاهم بين الأفراد والجماعات. فالتنوّع الديني أو المذهبي أو القومي أو الإثني، لا يشرع لأحد الانغلاق والانزواء وبناء مجتمعات خاصة مغلقة، وإنما هي مدعاة لنا جميعًا للانفتاح والتواصل وتعزيز قيم التعارف.

ولا بد أن ندرك في هذا السياق أن التعارف ليس هدفه إنهاء الاختلافات والتباينات، وإنما إدارتها على أسس مشتركة تضمن للجميع حقوقهم المادية والمعنوية؛ لهذا -ومن منطلق قيمة العدالة والتعارف- فإننا نرفض كل أشكال التحريض بين المختلفين وندعو الجميع من موقع المحبة إلى الالتزام بمقتضيات العدالة والتعارف. والتحريض بكل أشكاله ضد العدالة والتعارف وهو يؤسّس لمناخات نفسية واجتماعية تدمّر المشتركات وتطلق غرائز التدمير والحروب وتفكك أسس النسيج الاجتماعي.

لهذا كله فإننا في الوقت الذي نقر فيه بحقيقة التعدد والتنوع الإنساني، وندرك أن هذا التنوّع، سيقودنا لقناعات ومواقف مختلفة في شؤون الحياة المختلفة. ولكن هذا الاختلاف في القناعات والمواقف، ينبغي أن يحكم بقيمتي العدالة والتعارف، حتى نتمكن جميعًا من صيانة استقرار مجتمعاتنا والحفاظ على أسس العيش المشترك أو الواحد.

الاختلاف وضرورات العدالة

على المستوى الواقعي ثمّة مشكلة فكرية - سلوكية يتورّط بها الكثيرون. ومفاد هذه المشكلة أن الاختلاف سواء كان فكريًّا أو اجتماعيًّا أو سياسيًّا، في غالب الأحيان يبرّر ويسوغ لأحد طرفي الاختلاف والتباين أن يمارس التسقيط والاغتيال المعنوي للمختلف والتعدّي على بعض حقوقه سواء كانت مادية أو معنوية.

وحين التأمل في هذا السلوك نجده وفق المعايير الشرعية والأخلاقية، مما لا ينبغي الوقوع فيه. بمعنى لا توجد مسوّغات شرعية تغطّي أو تبرّر لأحد طرفي الاختلاف التعدّي على حقوق الطرف الآخر سواء كانت المادية أو المعنوية. وإن الاختلاف ليس مبرّرًا كافيًا للتعدّي على حقوق المختلف.

ولكن على المستوى الواقعي ثمّة وقائع عديدة تثبت أن الاختلاف سواء في دائرته الفكرية أو في دائرته السياسية يقود إلى انتهاك حقوق المختلف سواء كانت المادية أو المعنوية.

ولكي تتّضح الرؤية لطبيعة العلاقة بين الاختلاف والعدالة نذكر النقاط التالية:

1- الاختلاف في كل دوائره ومستوياته حالة طبيعية، لا يمكن أن تخلو أية ساحة اجتماعية منها. ولكن غير الطبيعي في هذا السياق هو أن يدفعك هذا الاختلاف بأي مستوى من مستوياته، إلى التعدّي المادي أو المعنوي على حقوق من اختلف معك.

ومعالجة هذا المسألة لا يمكن أن تكون بإفناء عناصر الاختلاف، لأنه من لوازم الحياة الاجتماعية، بمعنى حيث تكون هناك حياة اجتماعية، ستكون هناك اختلافات وتباينات في وجهات النظر، وإن هذه الاختلافات ستقود من يتخلّى عن أخلاقه أو معاييره الشرعية إلى التعدّي على حقوق من يختلف معه.

ولو تأمّلنا في طبيعة الإساءات التي تصدر في مجتمعنا فيما يتعلّق وظاهرة الاختلاف، نجد حين التأمّل العميق أن أحد أطراف الاختلاف يدفعه الاختلاف حقيقة أو ادّعاء إلى تبنّي مواقف عدائية من الطرف الآخر المختلف معه.

وهذا يعني أن الاختلاف الفكري أو السياسي يفضي على المستوى الواقعي إلى انتهاك الحقوق المادية أو المعنوية.

2- مع أن الاختلاف بمختلف دوائره ومستوياته، حالة طبيعية في حياة الإنسان فردًا وجماعة، إلَّا أننا جميعًا مقصّرون في فقه الاختلاف. وهذا التقصير يساعد على أن يقودك الاختلاف إلى انتهاك حقوق من تختلف معه. لهذا فإن من الأمور المطلوبة في حياتنا الإنسانية والاجتماعية هو فقه الاختلاف بشكل جوهري وحقيقي.

لأننا نعتقد أن فقه الاختلاف سيقود إلى فك الارتباط بين الاختلاف بمختلف دوائره ومستوياته وانتهاك حقوق المختلف، بحيث يتم التعامل مع الاختلاف في سياق حدوده الطبيعية التي لا تتعداه إلى أي شيء آخر.

والمجتمع الذي يتمكّن من فك الارتباط والاشتباك، هو المجتمع القادر على إدارة اختلافاته بشكل صحيح وإيجابي.

وأغلب المجتمعات التي تُعاني من أزمات ومآزق في علائقها الاجتماعية سواء كانوا أفرادًا أو مكونات، يعود في أحد جوانبه إلى هذه العلاقة الشائكة بين الاختلاف وانتهاك الحقوق. فمن يختلف معك ليس ساحة مكشوفة لانتهاك حقوقه أو التعدّي عليها.

الفصل بين الاختلاف والتعدي على الحقوق، هو الحل الأمثل لكل الأطراف.

والديمقراطية في التجربة الحضارية الغربية، هي في أحد جوانبها، محاولة مؤسسية لضبط الاختلاف وعدم استخدامه كمبرّر أو مسوّغ للتعدّي على الحقوق.

والمجتمعات الغربية قبل لحظة التطوّر الحضاري، كانت تعاني من هذه الإشكالية، التي ساهمت في إدخال المجتمعات الغربية في حروب دينية وغير دينية بعضها مع بعض. وبداية اللحظة التي تمكّنت فيها المجتمعات الغربية من الانتصار على واقعها المرير، هي تلك اللحظة التي فكَّت الارتباط فيها بين الاختلاف بمختلف دوائره ومستوياته، وأشكال انتهاك الحقوق. والديمقراطية في أبعادها الاجتماعية السياسية، هي التي جنَّبت المجتمعات الغربية الدخول في معارك دائمة على خلفية الاختلاف الفكري والسياسي.

ونحن في الدائرتين العربية والإسلامية، ومن أجل التخلّص من الكثير من الأزمات والمآزق الداخلية، أحوج ما نكون لبناء العلاقة بين الاختلاف والعدالة. بحيث لا يتحوّل الاختلاف إلى مبرّر للتعدّي على الحقوق أو عدم الالتزام بمقتضيات العدالة.

3- العدالة الاجتماعية والسياسية تتجاوز في جوهرها، البعد الأخلاقي والوعظي. بمعنى أن المطلوب من الجميع سواء كنا نعيش لحظة اختلاف أو لحظة صراع، المطلوب هو الالتزام بكل مقتضيات العدالة. وإن أحد الأسباب المباشرة لتجاوز حدود ومعايير العدالة، هو حينما تبرز ظاهرة الاختلاف بين البشر سواء بعنوان سياسي أو تحت يافطة فكرية، بحيث يقود الاختلاف الفكري والسياسي إلى تجاوز حدود العدالة وممارسة العدوان المعنوي أو المادي مع من يختلف معنا سواء كان فردًا أو جماعةً.

لذلك ثمَّة ضرورة قصوى لسيطرة قيم العدالة على كل أطراف الاختلاف. بحث لا يتحوَّل هذا الاختلاف إلى مبرّر إلى انتهاك الحقوق أو التعدِّي على مقتضيات العدالة.

فمن حقّنا جميعًا أن يختلف بعضنا مع بعض، ولكن ليس من حق أحد أن ينتهك حقوق من يختلف معه.

فالإنسان بطبعه نزَّاع إلى جعل الآخرين مثله في القناعات والسلوك، ولكن دون هذا خرط القتاد. وحينما لا ينضبط الإنسان بضوابط العدالة فإن هذه النزعة التي تتحكّم في حياة الإنسان ومسيرته المتنوّعة، هي التي تبرّر له تدفيعه ثمن الاختلاف معي أو التباين مع وجهات نظري.

وعلى كل حال، ما نود أن نقوله في هذا السياق: أن فكّ الارتباط والاشتباك بين الاختلاف والتعدِّي على حقوق المختلف المعنوية والمادية، هو أحد المداخل الأساسية لمعالجة الأزمات والمآزق التي تُعاني منها مجتمعاتنا.

وإنه ليس ثمّة مسوّغات شرعية أو أخلاقية، للتعدِّي على حقوق المختلف. وإن المطلوب دائمًا صيانة حقوق المختلف. فمن حق الجميع أن يختلف مع الجميع، ومن حق الجميع أن يصون حقوقه ويمنع التعدِّي عليها، وإن التباين في الأفكار والآراء والمواقف، لا يسوّغ لأي طرف التعدِّي على حقوق الطرف الآخر سواء كانت هذه الحقوق مادية أو معنوية.

وفي زمن التعصُّب المذهبي نحن أحوج ما نكون إلى ضرورة إبراز هذه القيم التي تمنع التعدّي على حقوق المختلف معه. وإن الاختلاف المذهبي لا يشرع لأي طرف التعدِّي على حقوق الطرف الآخر.

بهذا نصون مجتمعاتنا من الكثير من المخاطر التي تهدّد استقرار المجتمعات ووحدتها الداخلية.

إرادة العيش المشترك

على المستوى الاجتماعي والإنساني، تبرز حقيقة التنوّع والاختلاف في الآراء والميولات والأهواء بين الناس جميعًا. فما تحبّه أنت قد يكرهه الطرف الآخر، وما تراه ضروريًّا قد يكون لدى الآخر غير ضروري وهكذا دواليك. فالتنوّع حقيقة قائمة وراسخة في كل المجتمعات، ولا يمكن لأي طرف مهما أوتي من سطوة أو قوة، أن يُنهي هذه الحقيقة. فهذه الحقيقة تأبى الاندثار والتلاشي لكونها جزءًا من الناموس الرباني، فالباري عز وجل خلقنا مختلفين وجعل من هذا الاختلاف آية من آيات الوجود الإنساني. ودعانا جميعًا -وعلى قاعدة الاختلاف ذاتها- إلى التعارف.

فالاختلاف وفق الرؤية الربانية، ليس مدعاة للتحاجز أو لشن العدوان والانخراط في حروب معنوية أو مادية ضد من يختلف معنا. بل هذا الاختلاف بكل مخزونه هو مدعاة للتعارف. فالعلاقة بين الاختلاف والتعارف علاقة صميمية. بمعنى أننا جميعًا ندرك اختلافنا بعضنا مع بعض، ولكن هذا الإدراك ينبغي أَلَّا يقودنا إلى التجاهل المتبادل أو العداء المتبادل، وإنما إلى التعارف والانفتاح الكامل على المختلف معنا من أجل استكشافه وتوسيع المساحات المشتركة بينه.

وفي سياق طبيعة العلاقة بين الاختلاف والتعارف، تأتي أيضًا قيمة التعايش، والتي هي ضد السكون أو التحاجز النفسي والاجتماعي بين المختلفين.

فالإقرار بالاختلاف هو حجر الزاوية في مشروع التعارف. ولا يمكن أن ينجز التعارف بين المختلفين آحادًا أو جماعات بدون قيمة التعايش. فالتعايش هو الصيغة الاجتماعية والعملية لإدامة التعارف ولضبط الاختلافات بين المجموعات البشرية.

والتعايش هنا ليس قيمة سلبية أو محايدة، وإنما هو رؤية عميقة وممارسة سلوكية من الجميع تتَّجه صوب أننا جميعًا مهما اختلفنا بحاجة إلى أن نتعايش.

فالأوطان لا تُبنى ولا تستقر إلَّا بقيمة التعايش بين جميع الأفرقاء والأطياف.

وأي طرف يشعر أنه في غنى عن قيمة التعايش، فهو يبذر البذرة الأولى في مشروع تخريب الاستقرار الاجتماعي والسياسي في الوطن والمجتمع الواحد.

وما نود أن نُثيره في هذا السياق: هو أن الجميع يتحدَّث عن التعايش وضرورته وحاجة المجتمع المتنوّع إليه، إلَّا أن المشكلة هي غياب إرادة العيش الواحد بين المختلفين والمتعدّدين. بمعنى ليس مطلوبًا الحديث عن التعايش وممارسة السلوك المضاد للتعايش.

وإنما المطلوب دائمًا أن يعبّر الجميع عملًا عن إرادة العيش المشترك أو الواحد.

ولعلنا هنا لا نبالغ حين القول: إن الأزمة الحقيقية التي تعاني منها الكثير من المجتمعات المتنوّعة هي غياب أو ضعف إرادة العيش المشترك. فالجميع يتحدّث عن التعايش ويحبّبه إلى سامعيه، ولكن القليل من لديه الاستعداد النفسي والاجتماعي لإرادة العيش المشترك. والتعايش كحقيقة مجتمعية لا تُبنى بالدعوة المجرّدة إليها، وإنما بتوفير الاستعداد التام لإرادة العيش بين الأفرقاء جميعًا في سياق متّحد وطني يتجاوز كل المنغّصات والموانع. فإذا لم يسعَ الجميع صوب توفير إرادة العيش المشترك، لن ينجز مشروع التعايش السلمي بين جميع المكونات.

فالتعدّد الأفقي والعمودي في المجتمعات الإنسانية، لا يُصان إلَّا بتعزيز إرادة العيش المشترك. فيخرج الجميع من حالة الخوف أو الرهاب من الآخر، بحيث يشعر الجميع أن في العيش المشترك كل الخير والأرباح والبركات للمجموع الاجتماعي، وليس لفئة خاصة أو شريحة اجتماعية محدّدة.

فإرادة العيش هي سعي متواصل لتنمية المشتركات والمساحات الواحدة، وتغييب قابليات الخصومة بين المختلفين وإثراء متواصل للساحة الاجتماعية بثقافة التعاون والتعاضد على قاعدة الوطن الواحد، مهما كانت الظروف والأحوال، وصولًا لإنضاج بيئة وطنية - اجتماعية تُعلي من إنسانية الإنسان وتتعامل مع الجميع بإيجابية تامة مهما كانت المنابت والأصول.

وجميع هذه العناصر، لن تأتي بالموعظة المجرَّدة، وإنما بابتكار صيغة نظام أو قانون يحمي حياة العيش المشترك ويدافع عن كل متطلّباتها، ويمنع وفق سلطة القانون كل أشكال التعدِّي على مقتضيات العيش المشترك.

بمعنى أن مطلب العيش الواحد أو المشترك في الإطار الوطني الواحد، بحاجة إلى قانون وحماية هذا المنجز التعايشي.

فالتعايش ليس رغبة أخلاقية مجرَّدة، وإنما هو واقع اجتماعي - وطني لا بد من حمايته من كل خصومه. والحماية هنا تتطلّب منظومة قانونية متكاملة تجرم كل من يسيء إلى العيش المشترك، وتستخدم وسائل التثقيف العام للترويج والدعوة إلى العيش الواحد لكل المختلفين والمتنوّعين في الدائرة الوطنية الواحدة.

وفي سياق العمل على تعزيز إرادة العيش المشترك في مجتمعاتنا نودّ التأكيد على الأفكار التالية:

1- ضرورة بناء وصياغة ميثاق وطني متكامل، يرتكز على قيمة العيش المشترك، وأن الوطن بكل آفاقه وخيراته هو لجميع المواطنين، وأن الجهات العليا في الدولة والوطن يدعون إلى وحدة الصف الوطني، ويحاربون كل أشكال التباغض والتباعد بين أبناء الوطن الواحد، وأن قوة الوطن في وحدة المواطنين، وأن الوحدة الحقيقية للمواطنين جميعًا لا تُبنى إلَّا بإرادة العيش الواحد مهما تعدَّدت أو تباعدت مناطقنا ومدننا وقرانا. و«من المُسلَّم به أن إرادة العيش المشترك هي اللبنة الأساس في قيام الأوطان واستمرارها.

فالأوطان ليست حقيقة أزلية، قائمة في ذاتها، وليست في حاجة إلى براهين واجتهادات، لأنها ببساطة فعل إرادة لجماعات تعاقدت فيما بينها على مشروع مستقبلي في وطن وفي دولة تجسد سياسيا هذا الوطن»[4].

فجميع الأوطان والمجتمعات التي تعيش التنوّع هي بحاجة إلى نظام أو ميثاق وطني، يحمي وحدتها الداخلية من خلال حماية تنوّعها الأفقي والعمودي.

وبهذه الطريقة نخرج مفهوم العيش المشترك من سجن التفسيرات المتضاربة التي قد تُعيق إنجاز هذا المفهوم في الواقع الوطني والاجتماعي.

2- ثمَّة حاجة معرفية واجتماعية ووطنية اليوم، لتظهير الصيغ العملية المقترحة والمناسبة لإنجاز مفهوم العيش المشترك في ظل واقع التعدّد والتنوّع الذي يعيشه مجتمعنا.

لأن طرح قيمة التعايش بشكل مجرَّد، لا يُعفينا جميعًا من ضرورة البحث عن آلية أو صيغة إنجاز هذه القيمة في الواقع الخارجي.

وما أتصوره في هذا السياق هو الآتي:

المستوى الأولى ضرورة تظهير مجال وطني واحد، لا يفرّق بين المواطنين لاعتباراتهم الدينية أو المذهبية أو القبلية، ويتعامل مع الجميع على قاعدة المواطنة المتساوية بصرف النظر عن الانتماءات التاريخية للمواطنين. وهذا بطبيعة الحال يتطلّب مشروعًا للاندماج الوطني يتوسّل بالتعليم والإعلام والثقافة والممارسة السياسية والإدارية لتعزيز وإنجاز هذا المشروع.

والمستوى الثاني طمأنة واحترام عناوين الانتماء المتوفّرة في الإطار الوطني. بحيث لا يشعر أي طرف أن ذاته الدينية أو المذهبية أو القبلية مهدّدة بالاندثار أو السحق. أحسب أن هذه التوليفة هي سبيل إنجاز مشروع العيش المشترك أو الواحد في ظل حالة التعدّد والتنوّع الذي يزخر به مجتمعنا.

وبهذه الآلية نُنهي التحاجز بين المواطنين، ونبني واقع وطني يستوعب الجميع ويتعامل معهم على قاعدة وطنية واحدة.

وبهذا تتشكّل ثقافة وطنية نابذة للعصبيات وداعمة للاندماج الوطني.

فالترفُّع على العصبيات والمخاوف والهواجس، بحاجة إلى عمل متواصل، تشترك فيه أجهزة الدولة الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني.

فإلغاء التمييز العنصري -مثلًا- في جنوب أفريقيا تطلَّب جهدًا متكاملًا بين المجتمع ومؤسساته والدولة وأجهزتها. وكان للجان المصالحة الدور الأساسي، في منع نزعات الانتقام وفتح أفق الانتقال من واقع عنصري إلى واقع مدني جديد لا يفرّق بين المواطنين على أساس عرقي أو لوني.

3- وحدة المجتمعات المتنوّعة وغير المتنوّعة، ليس معطى طبيعيًّا، بل تُبنى هذه الوحدة مع الزمن، ومن خلال التجارب والمبادرات والممارسات السياسية والاجتماعية والاتفاقيات المكتوبة وغير المكتوبة ومن خلال التضحيات التي يقدّمها أبناء الشعب لإنجاز وحدته وصيانة تلاحمه الداخلي.

من خلال كل هذه العناصر مع عنصر الوعي والإرادة، تتشكّل وحدة المجتمعات.

لذلك من الضروري الالتفات إلى أن هذه الوحدة، بحاجة باستمرار إلى عطاء معنوي ومادي، حتى تتعزّز في الفضاء الاجتماعي والثقافي.

وعلى ضوء هذه الحقيقة نتمكن من القول:

إن إرادة العيش المشترك هي اليوم بوابة صيانة وتعزيز وحدة الأوطان، وإن أي تراجع أو تراخٍ في إرادة العيش المشترك، ينعكس سلبًا على وحدة الأوطان والمجتمعات.

من هنا فإن الوحدة الوطنية، تتطلَّب اليوم العمل على تظهير إرادة العيش المشترك لدى جميع المكونات والتعبيرات.

الحوار وإدارة التنوّع

ثمّة معطيات وحقائق عديدة في الاجتماع الثقافي والسياسي العربي، تجعلنا نعتقد أن الساحة العربية بكل دولها وشعوبها ومكوّناتها الدينية والقومية والأثنية، لا زالت بحاجة ماسّة وملحّة إلى الحوار بعضها مع بعض. فالاجتماع العربي -كغيره من المجتمعات الإنسانية- يحتضن العديد من المكونات والتعبيرات والأطياف، وإن استمرار الجفاء والتباعد بين هذه المكونات، يضر بالاجتماع العربي في أمنه واستقراره والحفاظ على مكاسبه المختلفة؛ لهذا فإننا نعتقد أن المنطقة العربية بكل مكوّناتها وأطيافها، بحاجة وفق خصوصياتها الوطنية والاجتماعية، أن تطلق مشروعًا متكاملًا للحوار بين مختلف أطيافها؛ لأن استمرار الجفاء والتباعد، أو غياب التفاهم العميق بين جميع الأطراف، يُنذر بمشكلات بنيوية وهيكلية خطيرة على مستوى الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي.

فالمنطقة كلها حبلى بالكثير من التطورات والتحولات المتسارعة، واستمرار سوء التفاهم أو التباعد النفسي والاجتماعي والعملي بين مختلف أطياف المجتمع يُهيِّئ الأرضية والمناخ للكثير من الأزمات والمشاكل. وإن الأطلس الأنثروبولوجي للمجتمعات العربية يقتضي الإسراع في مشروع الحوار وخلق التفاهمات العميقة بين مختلف الأطراف والمكونات. والذي يدفعنا إلى الإلحاح على ضرورة الإسراع لإطلاق حوارات وطنية – عربية – إسلامية عميقة بين مختلف العناوين والأطراف أن الدولة العربية الحديثة ولاعتبارات أيديولوجية وسياسية عديدة، لم تتمكّن من إدارة تنوّعها وتعدّديتها على نحو إيجابي وصحيح، مما فاقم من سوء التفاهم بين هذه الأطراف، فدخل الجميع بوعي وبدون وعي في أتون الصراعات والنزاعات والانقسامات الاجتماعية على أسس واعتبارات ما قبل المواطنة والدولة الحديثة.

وحين ندعو إلى الحوار ونحثّ عليه وعلى الإسراع في الانخراط فيه من قبل كل الأطراف، كوسيلة حضارية وإنسانية لتنظيم الاختلافات وإدارة التباينات، فإننا ندرك أن الحوار ليس حلًّا سحريًّا لكل المشاكل، بل هو الوسيلة المتاحة، التي تمكّن الجميع من ضبط نزعات الاستئصال وحروب الإلغاء، كما أنها هي المنسجمة وثوابت الأمة والوطن والمجتمع. فالحوار لا يستهدف زحزحة القناعات الأيديولوجية أو الفكرية، وإنما إعادة قراءتها على ضوء المصلحة وتجارب المجتمعات الإنسانية المتعددة.

فلا أحد -مهما أوتي من قدرة وسلطة- يستطيع أن يلغي الآخر أو يستأصل وجوده أو يُنهيه من الواقع؛ لأن جميع هذه الحقائق مركوزة في المجتمع ومتجذّرة في الوجدان والتاريخ والثقافة. لهذا فإن خيار الاستئصال والزحزحة لا يجدي نفعًا، وكل التجارب -مهما كانت في عنفها ودمويتها- لم تستطع أن تُجبر مجتمعًا أو طائفة من الناس على تغيير ثوابتها أو نقل موقعها الأيديولوجي إلى موقع آخر. فالتحول نحو دين جديد أو مذهب جديد أو منظومة فكرية جديدة، لا يتم بالقهر والقوة واستخدام العنف، وإن كل هذه الوسائل توصل إلى نتائج عكسية على الصعيد الواقعي. فالعنف يعزّز القناعات، والقهر يزيد من تصلّب الإنسان، والقوة تفقد وظيفتها أمام إنسان مؤمن بفكرته متشبّث بخياره.

لهذا فإن مسلك العنف مهما كانت الإغراءات أو المبرّرات التي تدفع إليه، فإنه لن يتمكّن من إدارة التنوّع على نحو صحيح وإيجابي. وكل التجارب تُثبت ذلك، ولم يُسجّل لنا التاريخ أن فئة من الناس، استطاعت عبر العنف أن تدير تنوّع مجتمعها على نحو يرضي الجميع ويحقّق الاستقرار العميق في المجتمع. والتجارب القديمة والراهنة تثبت بشكل لا لبس فيه أن العنف بكل قسوته وسطوته يُساهم في تنمية الفروقات والتباينات والأحقاد، وإن القهر يجذرّها ويعمّقها في التربة الاجتماعية.

فالتنوّع الاجتماعي بكل عناوينه لا يدار بالقهر والعنف والقسوة، بل يدار بالتفاهم والمداراة وتدوير الزوايا والحوار العميق والمفتوح على كل الحلول والمعالجات بعيدًا عن نزعات الغلبة والسجالات التي تُبقي الجميع في المربع الأول.

فالحوار بكل ديناميته وفعاليته هو الوسيلة المتاحة لإدارة التنوّع في المجتمعات العربية على أسس خلق الرضا والتفاهم العميق بين مختلف الأطراف والمكونات.

وحتى لا يكون نهج الحوار، وكأنه ملهاة أو محاولة لكسب الوقت، وتقطيع الظروف الملحة واستيعاب الاندفاعات المجتمعية في أطر وأقنية، لا تستهدف الإصلاح أو المعالجة، من المهم التأكيد على النقاط التالية:

1- المعرفة قبل الرأي: لعل من أهم الظواهر المرضية التي تساهم في تجويف الحوار من الداخل، أو تحويله إلى لعبة للسجال والصراخ والعويل الذي لا يفضي إلى أي شيء إيجابي.. أننا حينما نتحاور بعضنا مع بعض تحت أي عنوان كان، ننطلق من الرأي الذي نمتلكه عن الطرف الآخر، دون أن نسمح لأنفسنا أن نفهمه ونعرفه بشكل صحيح ودقيق.

فالحوارات المثمرة لا تتأسّس من الآراء المسبقة التي يحملها بعضنا عن بعض، وفي كثير من الأحيان فإن هذه الآراء تشكّلت في حقب زمنية أو ظروف اجتماعية ملتبسة، مما يجعل آراءنا تجاه بعضنا بعضًا، ليست دقيقة أو مطابقة إلى واقع الإنسان الحالي.

لهذا فإن الحوارات المطلوبة والمجدية، هي التي تنطلق من قاعدة المعرفة قبل الرأي.. فكلنا يحمل رأيًا عن الطرف الآخر، ولكننا لم نفحص هذا الرأي ومدى صوابيته ودقّته على قاعدة المعرفة العميقة بالآخر. فالآخر الديني أو المذهبي ليس هو الآراء الشاذة التي تنقلها كتب المساجلات الدينية والمذهبية، لهذا فإننا ندعو الجميع ومن مختلف المواقع، إلى ضرورة أن نعرف بعضنا بعضًا، بعيدًا عن الآراء التي تشكّلت في زمن الفتن والحروب الطائفية والمذهبية.

والحوار بكل أطره وآفاقه لا يستهدف تسجيل النقاط تجاه بعضنا بعضًا، فنخرج من كل جولة حوارية دون أن نُعطي لبعضنا بعضًا حق المعرفة الدقيقة والتفصيلية. من هنا فإننا نرى أن الحوارات المثمرة، هي التي تنطلق من معرفة دقيقة وواقعية بالآخر، حتى ولو كانت هذه المعرفة، مفارقة لرأينا الذي تشكّل في لحظة ملتبسة أو غير مطابقة لوقائع الأمور. فالحوار لا يستهدف نفي فكرة أو واقع التعدّد والتنوّع، بل يستهدف خلق المناخ والأطر والأساليب المناسبة، لإدارته على نحو يُثري المجتمع والوطن، ويقطع الطريق على كل من يتصيّد لزرع الفتنة وتعميمها في واقعنا العربي والإسلامي.

2- إن الاندفاع المتسارع في أكثر من بلد عربي وإسلامي نحو الفتن المذهبية والطائفية، يجعلنا نعتقد وبعمق أن المجتمعات العربية أحوج ما تكون اليوم إلى كتلة وطنية – اجتماعية تُعلي من قيمة المواطنة، وتعمل عبر تعدّديتها وتنوّعها إلى مواجهة هذه الفتن، بالإسراع في خلق الحقائق الوحدوية المستندة إلى احترام التعدّدية لوقف حالة الانحدار والتسارع نحو الانقسامات الاجتماعية على أسس طائفية ومذهبية. فالحروب الطائفية لا رابح منها إلَّا أعداء الأمة؛ لهذا ومن منطلق الحرص على الوحدة الوطنية في كل المجتمعات العربية والسلم الأهلي، ندعو إلى مراكمة الجهود وزيادة وتيرة التعاون والتضامن بين مختلف الأطراف التي تؤمن بالوحدة وتدعو إلى بناء مواطنة متساوية تحترم الخصوصيات الثقافية والمذهبية دون الانحباس فيها.

وعليه فإن الحوارات المثمرة هي التي تتَّجه إلى الإجابة عن أسئلة الراهن ومآزق الواقع، دون الاستغراق في النقاشات التاريخية أو العقدية.

فالمطلوب أن نعيش الحاضر على أسس صحيحة، وهذا يتطلَّب الحوار والنقاش حول الحاضر وسبل بناء علاقات إيجابية بين مختلف الأطراف.

فالحوار الذي لا يزيدك معرفة حقيقية بالآخر، هو سجال ومماحكة، تزيد من الالتباسات والهواجس بين المختلفين.

والحوار الذي لا يُفضي إلى اكتشاف الجوامع المشتركة والمساحات الواحدة، هو نقاش يزيد من تعصّب الإنسان لرأيه وقناعاته، دون أن يسمح لعقله بفحصهما ومساءلتهما.

والحوار الذي لا يجمع المختلف والمتعدّد في سياق وحدوي ومتّحد اجتماعي، هو حوار طرشان؛ لأنه يدور في حلقة مفرغة، وبداياته كنهاياته على مستوى النفس والشعور والقناعات والمواقف. فتعالوا جميعًا ندخل إلى حواراتنا ونقاشاتنا ومجادلاتنا، بروح المسجد الذي يحتضن المختلفين ويجمع المتباعدين ويجلّل الجميع بروحية الائتلاف والوحدة.

.............................................
[1] راجع: كتاب المنهاج، حقوق الإنسان في الإسلام، تأصيل ومقارنة، مجموعة من الباحثين، ص 45.
[2] سورة الحجرات، آية 13.
[3] سورة المائدة، آية 8.
[4] راجع كتاب مقاربات في الدولة المدنية، ص 151 - 152.

اضف تعليق