إن هذه الرؤية مهما بدت متشائمة إلا أنها ليست يائسة، وبقدر تقديمها صورة واقعية دون تجنٍ أو مبالغة، فهي في الوقت نفسه تقطر ألماً على هذا البلد العربي الفريد الذي يتمتع بحيوية ونشاط وإبداع لا حدود له، ومثلما كان واحة حرية لا بد أن يستمر ليصبح مشروع ازدهار...
منذ أواسط عام 2019 يتدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي اللبناني على نحو مريع، وإذا ما استمر الحال على ما هو عليه، فستكون النتيجة الحتمية لمثل هذا الانحدار هي الارتطام بالقاع، حيث كان سعر صرف الدولار الواحد رسمياً يساوي 1500 ليرة لبنانية، ووصل اليوم إلى 18 ألف ليرة. ومن يدري فقد يستمر الارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار، فتصبح العملة اللبنانية بلا قيمة في ظل أزمة اقتصادية خانقة أوصلت ما يزيد عن 50% من اللبنانيين إلى حافة الفقر، وكل ذلك يجري دون أن يرف جفن للمسؤولين والمتحكمين في مصير البلد. فهل سيسقط هذا البلد الجميل الذي تغنّى به الشعراء والفنانون والأدباء والكتاب والعشاق والحالمون والمجانين في الهاوية، أم ثمة من سيبحث عن حبل نجاة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟
الأزمة تكبر والشق يتسع، فالكهرباء تطل على الناس كهلال العيد، والمازوت والبنزين والمحروقات حديث الجميع، حيث الطوابير أمام محطات الوقود لأكثر من كيلومترين، وأحياناً يتم الانتظار على أمل الحصول على بضعة ليترات، لكن دون جدوى، والمخالفات والحوادث المرورية في ذروتها، حيث يستمر عدم تشغيل الإشارات الضوئية بحجة الاقتصاد في الكهرباء، والأوساخ تملأ الشوارع، ودوائر البلدية تكاد تكون عاجزة؛ لأن أجر العاملين انخفض إلى درجة غير معقولة، بحيث أصبح من يتسلم راتباً شهرياً بحدود 800 ألف ليرة، لا يساوي أكثر من 50 دولاراً لشهر كامل، وإذا ما عرفنا الارتفاع الصاروخي لأسعار المواد الغذائية وجميع السلع والبضائع، فهذا يعني أن سُبل العيش أصبحت ضيقة؛ بل تكاد تكون مستحيلة، وطرق الحصول على لقمة عيش شريفة عسير وغير سالك.
وإذا ما رُفع الدعم الحكومي عن بعض السلع والبضائع، فإن الأسعار ستحلق بطريقة «سوبرمانية»، وهي الآن بعيدة عن الواقع المعيش، وخصوصاً في مجالي الأدوية والأغذية بتآكل رواتب الموظفين جراء التضخم في الأسعار، وباستمرار الفرق بين السعر الخاص للصرف 3900 للدولار والسعر الحقيقي غير الثابت والمتصاعد.
ويقول خبراء مطلعون إن المصارف هي المستفيد الأول من هذا الفارق، إضافة إلى كبار التجار، فالمعاملات مع مصرف لبنان المركزي تتم على السعر الرسمي بما فيها رساميلها وشراؤها للدولار وتسديد القروض المتوجبة عليها، والتلاعب بحسابات المودعين بالدولار. وإذا ما تم إقرار البطاقة التمويلية التي يُتوقع أن يُقرها مجلس النواب، فإن الأسعار سترتفع على نحو غير مسبوق، الأمر الذي سيؤدي إلى إلحاق أفدح الأضرار بالناس وحقوقهم ومستقبلهم.
وإذا كان هناك من يعتقد أن العلاج هو بتثبيت سعر الصرف الذي يمكن أن يخفف من غلواء الأزمة، فالأمر أعمق وأعقد من ذلك؛ لأنه يتعلق بالإصلاح الشامل، السياسي والاقتصادي والقانوني والتربوي وبنظام الحكم والانتخابات.
إن استمرار الحال على ما هو عليه، يعني التوغل في المجهول، لاسيما في غياب إرادة سياسية موحدة، وهذه للأسف الشديد ما تزال مُعطلة وغائبة وتتجاذبها أهواء ومصالح شتى: إقليمية ودولية، طائفية وحزبية، في ظل استشراء الفساد المالي والإداري ونظام المحاصصة والتستر على الأتباع والمريدين، طالما أن النظام يقوم على «الزبائنية» السياسية المرتكزة على المغانم والامتيازات.
ومع استمرار خطر جائحة «كورونا» وتردي الحالة المعيشية وغياب خطة للإصلاح، تلوح في الأفق مخاطر تفكك وتفتت وسيناريوهات أقلها مُخيفاً بشأن مستقبل لبنان.
وتستمر التظاهرات والاحتجاجات وقطع الطرقات وإحراق الدواليب إلى درجة أن بيروت تبدو خارجة لتوها من الحرب، وما يزال مشهد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/أغسطس الفائت 2020، يقض مضاجع الجميع وهو شاهد على ما وصل إليه سوء الإدارة والفساد، وغياب الشفافية والانغلاق السياسي حد الاستعصاء.
الفساد هو الوجه الآخر للإرهاب، وهما وجهان لعملة واحدة، وإن لم تتم معالجة أسبابه وجذوره، فإن الارتطام الكبير سيحصل لا سمح الله وعندها لن يكون أحد في مأمن من الكارثة، ومثل هذه النتيجة عرفها اللبنانيون بعد حرب طاحنة استمرت 15 عاماً، انتهت باتفاق الطائف العام 1989. فهل سيقرأ السياسيون والمتنفذون الدرس الجديد أم سيتركون الحبل على الغارب؟، و«لاتَ ساعة مندم».
ولا بد من القول إن هذه الرؤية مهما بدت متشائمة إلا أنها ليست يائسة، وبقدر تقديمها صورة واقعية دون تجنٍ أو مبالغة، فهي في الوقت نفسه تقطر ألماً على هذا البلد العربي الفريد الذي يتمتع بحيوية ونشاط وإبداع لا حدود له، ومثلما كان واحة حرية لا بد أن يستمر ليصبح مشروع ازدهار، وهي مسؤولية جسيمة.
اضف تعليق