هذا الفشل يعود بدوره الى طبيعة النظام السياسي وبنيته المؤسسية، فالدول الاستبدادية والتي تهيمن فيها نخبة على الاقتصاد والسياسة تعيق النمو الاقتصادي والبناء المتين للمؤسسات الاقتصادية الناجحة، لأنها لا تتيح المشاركة الواسعة ولا تبني ثقة كبيرة مع الامة ولا تشجع الافراد على الانطلاق، بسبب المخاوف التي تكتنف مساعي الافراد...
في عام 2012 صدر كتاب حمل عنوانا مثيرا، انه كتاب (لماذا تفشل الامم، السلطة والازدهار والفقر) لمؤلفيه دارون اسيم اوغلو (امريكي من اصل تركي، استاذ في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا) وجيمس آلان روبنسون من جامعة هارفرد، استقصى الكتاب بالادلة التاريخية والمقارنات الرقمية، اسباب اغتناء وافتقار وتقدم وتخلف الدول اقتصاديا.
وفي حين تعزو النظريات الكلاسيكية اسباب الفقر الى المناخ والطبيعة والثروات والسكان والقيم الدينية والثقافية والموارد البشرية، يتبنى المؤلفان رؤية جديدة اثارت الانتباه لما يدعوان اليه، انهما يعزوان الغنى والفقر، او التخلف الاقتصادي والغنى المالي الى النظم السياسية والمؤسسات الاقتصادية، فهما يريان ان الدول تفشل حينما تفشل مؤسساتها الاقتصادية والانتاجية والمالية، بسبب عجزها عن اطلاق الحوافز اللازمة للاشخاص من اجل الابتكار والاستثمار والادخار، وهذا الفشل يعود بدوره الى طبيعة النظام السياسي وبنيته المؤسسية، فالدول الاستبدادية والتي تهيمن فيها نخبة على الاقتصاد والسياسة تعيق النمو الاقتصادي والبناء المتين للمؤسسات الاقتصادية الناجحة، لأنها لا تتيح المشاركة الواسعة ولا تبني ثقة كبيرة مع الامة ولا تشجع الافراد على الانطلاق، بسبب المخاوف التي تكتنف مساعي الافراد.
السياسة والاقتصاد صنوان، والمؤسسات السياسية الناجحة هي التي تقود الى مؤسسات اقتصادية مماثلة في النجاح، وذلك ممكن -بحسب المؤلفين-بوجود نظام ديمقراطي شامل، ومؤسسات تمثيلية واسعة، وثقة جماهيرية كبيرة، كل ذلك يسمح بنمو الاستثمار وتوسع نطاق الاعمال وحرية الابداع والابتكار.
الامثلة التي ساقها المؤلفين قديما وحديثا برهنت على صدق مدعاهما، بما جلب الانظار للاهتمام الجاد بهذه الرؤية الجديدة. والنتيجة التي يخلص اليها الباحثان هما، اعطني نظاما سياسيا سليما اعطك اقتصادا ناجحا.
نعود الى مشكلتنا نحن في العراق، فالى اي مدى ساهم النظام السياسي في الفشل الاقتصادي الذي انتهى اليه العراق؟ ولماذا توارى حلم العراقيين في حياة كريمة، رغم ان بلادهم توصف بالغنى وتحظى بامكانيات بناء اقتصاد متنوع يحررهم من مشكلات الريع وتبعاته المدمرة سياسيا واجتماعيا وقيميا.
مشكلة العراق الاولى كانت ومازالت السياسة التي فشلت في التأسيس لدولة مستقرة بنظام مؤسساتي فعال، يضمن المشاركة والتمثيل الواسع ويحقق الرضا والقبول والثقة العامة، مائة عام من عمر الدولة (1921-2021) العراقية، ذهبت هباء، بتجربة بناء هشة وناقصة الرؤية، سبب ذلك ثقافة سياسية بدائية محورها الصراع على السلطة وتغليف الصراع بايديولوجيات وافكار تسوق للمثالية والحل الناجع وتعد بالتقدم والعدالة الاجتماعية
قرن باكمله احترق بفعل الصراع الذي دار في العقول اولا، قبل ان يخذ مساراته على الارض، فضاع التراكم الضروري لبناء المؤسسات وتغيير نمط الانتاج والاستهلاك وتوزيع الثروة وتداول السلطة والخلاص من الرؤى الايديولوجية العقيمة، انهارت الدولة الوطنية عام 1958 بسبب هشاشة البنى السياسية والاقتصادية والثقافية، وتغلب منطق القوة والانتقام والاكراه، ثم ما لبثت دولة العساكر والاحزاب المؤدلجة ان انهارت بسبب هيمنة نخب حزبية بدائية متخلفة قادتها ثقافتها القروية الى الاعتماد على العشيرة والعائلة واستغلال المال والاقتصاد ومؤسسات الدولة للبقاء بالسلطة، فضاقت عليها منافذ البقاء والصمود وتقلصت القاعدة الجماهيرية الى مجموعة متخادمة تتقايض السلطة بالامتيازات.
بعد عام 2003 كان مفترضا اننا وعينا الدرس واتخمنا بالتجارب السلطوية، فلا نعود نكرر الاخطاء ونتصارع على السلطة والريع، بذات الطرق والعقلية البدائية لاسلافنا، لكن الثقافة السياسية التي نتحرك بمفاهيمها قادتنا الى الفوضى والاستقواء بالسلاح وتحويل نهارات العراقيين الى مسرح مفتوح للتكالب على السلطة واغتنام الثروة، فعاد العراق يرتع بالفقر وشح الموارد المالية وافاق معتمة تهدد بضياع اخر الفرص واخر اللحظات المتاحة، للخروج من المأزق.
السؤال متى نؤوب الى الرشد اذا كان كل هذه المخاطر الماثلة لا تحرك فينا بواعث العقلانية والحسابات الدقيقة لمخاطر مانحن فيه وعليه. تجمع الدراسات وقراءات المحللين والباحثين ان الاقتصاد المتدهور بفعل السياسات الفاشلة وقصر النظر وانعدام الكفاءة والخبرة سيقود العراق الى مزيد من الاحتجاجات والتكالب على السلطة لضمان حصة من الاقتصاد والثروة المتضائلة، وسيقود هذا الصراع الى دورة من العنف وعدم الاستقرار تفكك الدولة والمجتمع باسرع مما يتوقعه اسوأ السيناريوهات، فهل وعى السياسيون هذه المخاوف والتوقعات قبل ان يكرروا ذات الفكر الذي لم ينتج شيئا وقبل ان تفوت فرصة تدارك الامور!؟
اضف تعليق