لا يمكن أن يبنى جسرا للمستقبل من جاء من الهامش، لأنه لا يملك صورة واضحة للغد التي بدونها لا يمكن أن يتحقق عبورا آمنا للمستقبل، وهذا حال جميع المتصارعين لتصدر المشهد في بلادنا، وكل ما يُقال صور هلامية أقرب للأنشاء منها الى الواقع. ولا عبور بلا تجسير...
شيء ما دب في أطرافي السفلية، لا أعرف ما هو على وجه التحديد، قد يكون ذلك بفعل الألوان التي أبصرها من هذا العلو الشاهق، لم أر من قبل ألوانا بهذا الصفاء، الأزرق أزرق، والأحمر أحمر، امتزجت ألوان الفضاء الذي يشغله الجسر الطويل بتلك التي طُليت بها مباني المدينة، وبالرغم من صغر واحكام نافذة الطائرة، وصوت محركاتها العالي، لكني شعرت ان هدير أمواج البحر المتلاطمة يُطرب اذنّي، ولونها الأزرق المشوب بالبياض يملأ عيني، حتى لم أعد أرى او أسمع شيئا آخر، فالأمكنة تبدو أكثر جمالا عندما تراها من الأعلى، او هي عين الطائر كما يسميها السينمائيون، فجمال هذه اللقطة يثير المشاهد ويلفت انتباهه ويزيد من انجذابه، هكذا رأيت جسر البسفور في زيارتي الأولى لمدينة اسطنبول التي يبلغ عدد زوارها 12 مليون سائح سنويا، وكانت رؤية الجسر من بين أبرز دوافعهم، لذلك لا تستغرب أن يكون الجسر وجهة سياحية، ويسعدك أن توثق زيارتك بصورة تذكارية، والحقيقة انك لا تصور نفسك فحسب، بل تصور المكان الذي يشكل الجسر مركز الثقل فيه، لتقول: (أنا كنت هنا)، وبذلك أصبح للجسر قيمة جمالية تضاف للقيمة التاريخية التي تنطوي عليها لوحة المدينة التي يُحرك توازن كتلها مشاعر السياح.
للجسور تواريخ، بعضه تكتبه الحوادث، واخرى تخلده الفنون، فتعلق بالذاكرة، فما مررت بمدينة المسيب، الا وحضرت في ذهني الفنانة صديقة الملاية بأغنيتها (على جسر المسيب)، وبالرغم من انك تعبر جسرا غير الذي تتحدث عنه كلمات الأغنية، لكنك سرعان ما تترجل لتتأمل جمال نهر الفرات الممتليء، والفضاء المكاني الممتد، فيسرح بك الخيال بعيدا لتبني منتجعا سياحيا يبدد التشنج الذي يكابده المجتمع، وتحرر الناس من البيوت التي صارت أقرب الى السجون منها الى المساكن، ولأنها كذلك تعقدت حياتها وكثرت مشاكلها وانغلقت على نفسها، فما أحوجنا الى الاسترخاء، ويجيبك الجسر والنهر بصوت واحد، لقد قالتها الملاية (على جسر المسيب سيبوني).
الصدفة وحدها وضعتني مع بعض الأصدقاء على جسر اللوزية في لبنان، فاذا بها قنطرة صغيرة، ولولا اللوحة التي تشير اليها لعبرناها غير آبهين، وهنا غاب جمال المكان وهواؤه العليل الذي كنا للتو نتلذذ به، لتحضر فيروز بكل شموخها، تتجول في أرجاء الوادي بصوتها المتناسق مع الطبيعة، وبلا تردد توقفنا، لنلتقط صورة، ليس مع القنطرة، بل مع اللوحة، لأن القنطرة بلا هوية، فيروز من رسم هوية العشق لها.
وعبرت جسور بغداد كلها، ولم تتولد رغبة بالتصوير معها، لأقول: هذه جسورنا، بل صورت نفسي بهذا العمر او ذاك، جسور للوصول الى الضفة الأخرى، وليس للاستمتاع بلذة العبور، واللذة تكمن في الأشكال، وجسورنا بلا أشكال تميّزها، الضفة الأخرى هي الوحيدة الحاضرة في ذهن من أوعز ببنائها، بينما غاب الجمال، وكيف يصنع جميلا من تشبع بهدير المدافع وأزيز الرصاص؟، لذلك ملأ الساحات بنصب السيوف والاسود وكل ما يحيل الى الموت، بدل حمامات السلام وأغصان الزيتون ومعاول البناء، ولم يكن بوسعه سوى بناء جسور لا يسلكها عابرون، وهذا حال جسور المشاة في مدننا جميعها، والجسور التي لا وظيفة لها ميتة، وهكذا تولد جسورنا وتموت واقفة.
لا يمكن أن يبنى جسرا للمستقبل من جاء من الهامش، لأنه لا يملك صورة واضحة للغد التي بدونها لا يمكن أن يتحقق عبورا آمنا للمستقبل، وهذا حال جميع المتصارعين لتصدر المشهد في بلادنا، وكل ما يُقال صور هلامية أقرب للأنشاء منها الى الواقع. ولا عبور بلا تجسير العلاقة مع الآخر، ويقتضي ذلك افقا رحبا، بينما لم نتحرر بعد من الهوس بالبعيد من الماضي وقريبه، فهل يُراد لنا المراوحة في المكان؟
اضف تعليق