العراق الذي أنتج فكر الثورة على الديكتاتورية والطغيان، منذ قرون من الزمن، وأنتج ثقافة تغيير الواقع الفاسد، والإصلاح الفردي والاجتماعي يقف على شفا حفرة من حرب جديدة بالوكالة ليست من سنخ الحروب التي خبرها طيلة العقود الماضية، إنما هي حرب ايديولوجية يتمترس ابنائه بين جبهتيها...
العراق الذي أنتج فكر الثورة على الديكتاتورية والطغيان، منذ قرون من الزمن، وأنتج ثقافة تغيير الواقع الفاسد، والإصلاح الفردي والاجتماعي يقف على شفا حفرة من حرب جديدة بالوكالة ليست من سنخ الحروب التي خبرها طيلة العقود الماضية، إنما هي حرب ايديولوجية يتمترس ابنائه بين جبهتيها دون أن تكون له علاقة تذكر بهذه الايديولوجية او تلك.
يتذكر الآباء كيف تحول العراق –على حين غفلة- الى ساحة حرب ايديولوجية بالوكالة لم تستخدم فيها أدوات الفكر من؛ قلم وبيان، بل الرصاص والخطف والاغتصاب والسحل بالشوارع، كان أحد طرفيها المدافعون عن الماركسية على أنها الفكرة المنقذة للفقراء والمعدمين، وانها قادرة على استعادة حقوقهم وكرامتهم من اصحاب المزارع وممن يصفونهم بالاقطاع والطبقة البرجوازية، أما الطرف الآخر فكان دعاة القومية العربية المنادين بفكرة "البعث العربي" من التخلف والهزيمة والحرمان، وأن الاهتمام بالقومية يُعد سبيلاً لتحقيق النجاح، علماً أن الماركسية جاءت مما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي، والقومية العربية جاءت بثوبها الايديولوجي من مصر الناصرية (نسبة الى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر)، بعد صياغتها من قبل مفكرين عرب مطلع القرن العشرين من الناقمين على سياسات الدولة العثمانية، في طليعتهم ساطع الحصري.
والغريب في الأمر، أن العراق؛ يتميز عن جميع البلدان العربية، ربما حتى الاسلامية بأنه أضاف الى هويته الاسلامية طابعاً حضارياً بانفتاحه على الشعوب والثقافات، فهو ملتقى القوميات والاعراق واللغات بفضل وجود مراقد الأئمة المعصومين، عليهم السلام، وكونهم مشاعل تضيء للأمة والاجيال طريق الوحدة والتكامل والاقتدار، ولذا كان العراق طيلة قرون من الزمن أرضاً طيبة وآمنة لمن يريد ان يتعلم أو يعمل ويبني سواءً؛ من العرب، او الفرس، او الترك، او من بلاد الهند، ومن أي مكان بالعالم، دون أن يشعر أحد بمشكلة اجتماعية إلا بعض الحوادث الطفيفة بحدود التصرفات الشخصية التي لم تخل بالمسيرة الحضارية العامة، وعلاوة على كل هذا، لم تتهدد لغة العراقيين ولا عراقيتهم، فبقوا عَرباً، وبقت لغتهم العربية التي بنت قامات من العلماء والادباء.
من جهة اخرى عُرف عن العراق قبل وبعد الاسلام، انه مهوى الديانات والرسالات السماوية، وعلى مر التاريخ القديم والحديث لم يحصل أن كان الدين سبباً في تعاسة وبؤس الانسان العراقي، بل كانت العبادة ثقافة اجتماعية، والعباءة السوداء زياً جميلاً وملازماً للمرأة طيلة قرون من الزمن، إنما المشكلة المعروفة للجميع تتمثل دائماً في ظلم وجور الحكام، لا غير.
شعب و وطن بلا فِكر
انتبه البريطانيون مطلع القرن العشرين، وتحديداً بعد ثورة العشرين أن علماء الدين يمثلون مصدر إشعاع فكري وثقافي بتحريضهم على النهوض والتغيير حتى وإن كان امامهم أكبر قوة عسركية وسياسية في العالم، او دولة "لا تغيب عنها الشمس"، لذا تحركوا سريعاً لفصل العلماء عن المجتمع بشتى الطرق والاساليب، واستمرت العملية في العهد الملكي، ثم تحولت الى عملية قسرية عنيفة و دموية في الانظمة الجمهورية حرصاً ممن يهمهم الامر لتحقيق أمرين؛ الاول: الابقاء على خلو المجتمع من ايديولوجية تفضح شرعيتهم المزيفة، وهي الفكر الاسلامي، والامر الثاني: إقحام الناس في حرب ايديولوجية بين جهتين لا علاقة لهم بها، لكن عليهم الاختيار بين أحدهما: إما أن ينتصر لفقره وحرمانه على من ظلمه وانتهك حقوقه، أو ان ينتصر لقوميته وعروبته امام من يريد –افتراضاً- تغيير هويته وجعله تبعاً للثقافات الاخرى.
منذ عام 1920 وحتى خمسينات القرن الماضي فترة تخللها جيل كامل غاب عنه الفكر الاسلامي الاصيل الداعي الى نظام متكامل للحياة يوفر كل اسباب السعادة والكرامة، و يحقق له مَنَعة من التحديات الخارجية بسبب تغييب العلماء من الساحة، إما بالترحيل القسري خارج العراق، او بممارسة الضغوط عليهم، فتحولت العلاقة المختلّة بين الفلاح وصاحب الارض على وجه التحديد عنوان لقضية كبرى، وسبباً لانتماء اعداد كبيرة من الفلاحين وسكان المناطق الريفية الى التيار الماركسي، واصبحوا فيما بعد من المناصرين للانقلاب العسكري على العهد الملكي الذي رأوا فيه نظاماً ظالماً وجائراً.
ولكن؛ عندما سقط النظام الملكي وانتشر الفكر الماركسي في العراق، لم ينتصر الفقير لفقره وحرمانه وتخلفه، إنما انتصر وبكل ما يملك للحاكم وحسب، فقد تغيّر شكل الحكم ولم تتغير حالة الفقر لديه الى الغِنى، ولم يتقدم ليكون عالماً ومثقفاً وواعياً بامور بلده ومجتمعه، وهذا ما جعله يقف متفرجاً على سقوط هذا النظام نفسه بانقلاب آخر، ويشهد الاحداث الدامية والمريعة التي قادها "الحرس القومي" في شباط عام 1963.
استحضار الماضي ونكران الحقائق
حتى اليوم يتصور البعض ان العراق يخلو من ايديولوجيا نابعة من صميم هويته وانتمائه وتاريخه، وهذا ما يسعى لتكريسه اكثر من طرف له مصالح عميقة في العراق بعد عملية الاطاحة بنظام صدام، ومن ثم زجّ العراق والعراقيين بحرب ظالمة مع الجماعات التكفيرية والدموية، ثم فرض نظام المحاصصة السياسية واستسهال ظاهرة الفساد في كل مكان ليصل المواطن العراقي الى نتيجة أن لا فائدة من أي حل يتصوره او يفكر به هو شخصياً، إلا ان يفكر به الأقوياء من ذوي التأثير على الساحة السياسية والاقتصادية والامنية.
هذا اليأس والاحباط والتشكيك بكل ما هو عراقي –إن صح التعبير- هو الذي يخفي حقيقة الايديولوجيات والافكار المتصارعة في العراق ومآلاتها وتأثيراتها على مستقبل العراق والعراقيين.
فقد تعرّف العراقيون في التاريخ الحديث على الفكر الحسيني، وما تحمله من مضامين النهضة، والوعي، والتغيير الشامل والجذري، والتضحية في سبيل القيم والمبادئ، و كان ايمانه بهذا الفكر الحضاري لما رآه من استباقه للكرامة الانسانية على إراقة الدماء وتعريض حياة الناس للخطر، وهو ما جسده بوضوح الامام الحسين، عليها لسلام، عشية يوم عاشوراء بانه لا يريد الحرب والقتال لاثبات وجوده، فبطولته في مواجهة الانحراف والظلم والتضحية في سبيل الله في هذا الطريق، ولا يريد ان يواكبه أحد إلا وهو مؤمن بقضيته من اعماق قلبه.
بينما يلاحظ العراقيون اليوم أن الافكار والايديولوجيات التي لا يفهمون الكثير من مفرداتها تقف خلف ستار من الدماء، ولا تتحرك او تتفاعل مع واقعهم المأساوي بغية التغيير الحقيقي ليكون الانسان العراقي متعلماً ومثقفاً ومنتجاً، كما هو الانسان في البلدان المتقدمة حيث يُسهم بشكل مباشر في جلوس الوزير والنائب والرئيس خلف مكتبه، كما يمتلك القدرة على تنحيته وبكل سهولة، ويسهم ايضاً في تقدم عجلة الاقتصاد، إذ لا فرصة مطلقاً في الوقت الحاضر في العراق للتفكير في أمور كهذه تُعد من النظريات المستحيلة، والمثاليات لمن يسمعها، إنما المهم لدى البعض تقديس هذه الفكرة والدفاع عنها، ثم تكفير الآخر. أو الترويج لتلك الفكرة وتسفيه وتسقيط الفكر المقابل والتنكيل به بشتى الوسائل، حتى وإن اقتضى الامر النزول الى الشارع واستخدام العنف ولغة الرصاص والدم عندما تتحول فكرة مستوردة الى لجام محكم يفقد صاحبه صوابه ولا يفكر إلا بالانطلاق مهما كانت النتائج.
نرجو ان لا يصل العراق والعراقيون الى هذا المآل الخطير.
اضف تعليق